التراضي
الحب ثقافة

“عشان تقدري تقولي لأ”.. التراضي ورغبتنا الحرة

تتسم العلاقات بين الرجال والنساء بالشد والجذب، بين رغبة الرجال في السيطرة، وقبول النساء بالأمر الواقع، ويتناسى الجميع أن الهدف الأصلي من العلاقات والتراضي فيها هو السعادة والاستمتاع.

بدأنا عام 2020 بتذكرة جديدة وفجة بأن لا مكان للاختيار الحر في علاقاتنا، لا مكان لحرية التعبير عن الرغبة أو الرفض.

ذكَّرتنا أغنية مخرج الإعلانات تميم يونس “سالمونيلا” أن أي رفض موجه من امرأة لرجل غير مقبول، بل وقد يقابل بالعنف أو التنمر أو الاتهام بـ”انك مسيكبة”، أي مريضة نفسياً.

انقسم مشاهدو الفيديو بين مجموعة ترى العمل يسخر من الذكورية الهشة التي لا تحتمل الرفض، وأخرى ترى أن الفيديو يحرض على العنف ضد المرأة. وخرج تميم يونس في محاولة لتوضيح أن الفيديو لم يكن هدفه الإساءة للمرأة وأنه “بيحب يهزر”.

ولكن الواقع لم ينتظرنا كثيراً حتى نحدد موقفنا من الأغنية، ورد علينا بشكل قاطع بحادث التحرش الجماعي بفتاة المنصورة، والذي تلا نشر الفيديو مباشرة، ليذكرنا بأن تناول قضايا العنف الجنسي بالسخرية و”الهزار” في مجتمع مُشبع بثقافة الاغتصاب، لا يُعد وسيلة نقدية، بل تطبيعاً وتخفيفاً من أثر جرائم العنف علينا.

نحن في أشد الحاجة لمراجعة مبادئنا فيما يخص التراضي (Consent)، والتعبير عن الرغبة والرفض بحرية وبدون تهديد.

 

فلاش باك

“مين علمنا نتبسط؟ مين علمنا نختار؟ من صغرنا مينفعش نقفل باب الأوضة، ولو قفلناه من حق أي فرد في الأسرة الدخول فجأة بدون خبط او استئذان. من هنا مساحاتنا مستباحة، واترسخت فكرة أنه (طالما مش بتعمل حاجة غلط عايز خصوصية ليه؟)”

هكذا تتلخص علاقتنا بالصح والغلط، الصح في النور والغلط في الظلمة. السرية والخصوصية دليل على وجود شيء غلط ينبغي أن يختبئ. ولو أخطأت إذن أنت تستحق أو بمعنى أصح فقدت حقك في الشكوى من العنف.

والصح والغلط هنا متعلقان بوجهة نظر المجتمع.

الغلط من وجهة نظر المجتمع يشرع الاعتداء على الغلطان. فمثلاً لو رجل في الشارع قرر أن ملابس امرأة لا تعجبه، سيبيح لنفسه التحرش بها. لو أسلوب حياة جار لا يعجبه، يمكن أن يعطي لنفسه حق الاعتداء على حريته أو خصوصيته.

 ومع تكرار هذا الاعتداء على حرية الغير بدون مقاومة، وأحياناً بتشجيع من المجتمع، يصبح الاعتداء على حرية الغير بدافع استباحة “الغلطان” شيء طبيعي، ومع تكرار المشهد نعتاد هذه الاستباحة، ويصبح من يقاومها هو الطرف الأضعف والمعرض لمزيد من الهجوم.

وعدم الاعتراض على فعل خاطئ في العلن يعطي له شرعية وبالتالي نتطبع عليه، ولا يخشى أحد من الإقدام عليه، ومن يعترض يتحمل الهجوم.

القبول والرفض
shutterstock

أن نقول “لا” بحرية

 من الصعب أن نقول “لا”، إذا لم نتعلم أن نقول “نعم”.

بمعنى آخر، من الصعب أن نمارس التعبير عن الرفض، إذا لم نتعلم التعبير عن الرغبة. منذ الطفولة نتعلم الطاعة ولكن لم يعلمنا أحد رسم حدود لمساحاتنا وخصوصيتنا، وبالتالي لا ندرك أهمية احترام مساحة وخصوصية الآخر.

ثم يكبر الأطفال على التمييز بين الرجل والمرأة، ونفهم ضمنياً أن اختيارات مجموعة أهم من الأخرى، وأنه يوجد سلم وهمي لأهمية رغبات الأشخاص، العامل المؤثر فيها هو الجنس (ذكر وأنثى).

كذلك لم نعتاد وجود المرأة التي ترفض بحرية وبدون تهديد، سواء رفض أعباء تحملها بشكل غير عادل، أو حتى في صورة تعبير عن التعب أو الرفض أو الغضب.

كما لم نتعلم احترام المرأة التي تضع سعادتها وراحتها أولوية، وتسعى لتحقيقهما خارج سطور السيناريو المرسوم لها مسبقاً ممن حولها وبدون مساهمة منها.

الصورة المرجعية للمرأة في عقولنا هي الأم، المُضحية، الصبورة، الموافقة ضمنياً على جميع طلباتنا، سواء كانت منطقية أم لا، عادلة أم لا، وسواء كانت قادرة وراغبة على تقديمها أم لا.

بالإضافة إلى ذلك، تكرار الرد على الرفض بالعنف يهدد حرية الاختيار، ويجبر الطرف المستضعف على التراضي كوسيلة للدفاع عن النفس أو تجنب التعرض للخطر، بدلاً من أن يكون وسيلة للتعبير عن رغبة حرة وحقيقية.

وبتربيتنا على الخوف من رغباتنا، خاصة تلك التي لا تتطابق مع ما كبرنا على أنه هدفنا الأوحد: دراسة، عمل، زواج وإنجاب، لا نجد وقتاً للسعادة، موعودين أنها ستتحقق من تلقاء نفسها إذا سلكنا الطريق المرسوم لنا بدون اعتراض أو اختلاف.

كبرنا ورأينا صراع القوة بين الرجل والمرأة متمثلاً في جميع جوانب حياتنا، يغذيه تخويف الرجل من كونه مساوي للمرأة، وتغذية صراعه الدائم على إثبات فوقيته عليها حتى يتمكن من إثبات كونه رجلاً، وبالتالي العيش بأمان وسط مجتمع قائم في الأصل على التمييز، والتنافس والعنف.

 

لكن لا سبيل للسعادة والإشباع بدون أن تكون المتعة محور حياتنا.

 

لا أقصد هُنا المتعة الجنسية فقط، بل المتعة كمنهج وسلوك في جميع جوانب حياتنا، حتى في أبسط اختياراتنا اليومية. حتى تتحقق هذه الرؤية، لا بد من تقاطع عوامل مختلفة مثل الدعم والحب واحترام سلامة الآخر وسعادته.

نعم قبل لا
shutterstock

نعم قبل لا

قبل أن نتمكن من أن نقول لا، لا بد وأن نتعرف عما نبحث عنه في الحياة، ما نريد أن نقول له نعم.

بعدها، وبالتمرين، سنتعلم الفصل بين ما خُيل لنا أننا نبحث عنه (ممن حولنا، أو من تأثير ثقافة سائدة مشبعة بالعنف والكراهية والتنافس ومعاداة التنوع والاختلاف)، وما نبحث عنه حقاً ونجد فيه سعادة حقيقية.

حينها فقط سيتوقف العديد من الرجال عن ملاحقة النساء بالعنف لمجرد أن يثبت لأقرانه أنه ينتمي لمجموعة الرجال، الأقوياء، الذين لا يقبلون بـ “لا” كرد على أي مطلب لهم، لأنه يعرف أنه إذا لم يتصرف بهذا الشكل، سيتم التشكيك في رجولته. 

عندما نتحرك مدفوعين بالبحث عن السعادة وليس الهروب من التعاسة يمكننا أن نتوقف عن استخدام بعضنا كأدوات، جامدة، خالية من المشاعر والرغبات، لإسعاد أنفسنا، ونبدأ في مشاركة السعادة، مع بعضنا، مما سيتيح انسجامنا معاً بالرغم من اختلافاتنا.

سيتحول صراع القوة لمشاركة، وحينها فقط سنرى أهمية التراضي في جميع تعاملاتنا، ونتطلع لمشاركة الرغبة في كل فعل هدفه في الأصل “الانبساط”، وليس فرض السيطرة، أو تسكين الخوف من المساواة.

حينها فقط ستكون كل لمسة، كل قبلة، كل مغازلة، وكل حميمية مرغوبة من الطرفين، وبالتالي يتحقق هدفها الأصلي وهو سعادة ومتعة جميع أطرافها. 

التراضي (consent) ليس مبدأ نحتاج فقط للتعرف عليه عند بداية نشاطنا الجنسي، وكأنه مؤشر فقط للتمييز بين ما هو اعتداء جنسي وما هو علاقة حرة ومتساوية ومرغوبة من جميع أطرافها.

التراضي ليس أداة قانونية للتحقيق في قضايا العنف الجنسي وحسب، بل هو معنى أشمل لضرورة التراضي المتبادل في أي علاقة، ومتعلق بما هو أشمل من الجنس، من بداية التعارف وحتى مشاركة الحميمية بكل درجاتها.

التراضي مبدأ أساسي في جميع جوانب حياتنا، نحتاج لتنميته فيما هو أبعد وأشمل من الجنس.

نحتاج إلى أن ندخل العلاقات برغبة حقيقية وليس بسبب الشعور بضغط أو خوف سواء من الوحدة أو التنمر. أن يكون التراضي أساسياً في اختيارنا للشريك/ة وصورة العلاقة ومسارها.

هذا هو ما نتطلع له من العلاقة، حتى لا نوافق على ممارسات فقط لخوفنا من فقدان العلاقة ومميزاتها، أو الاستمرار في علاقات غير مُرضية أو مسيئة، خوفاً فقط من نتائج الرفض سواء كانت عنيفة أو لا.

الرفض الحر
shutterstock

بمعنى آخر، أن نمارس الرفض بشكل حر، يحترم مشاعر الآخر، ولا يخضع للتهديد أو التخويف من رد فعل عنيف، أو الحرمان من أي من حقوق الطرف الذي مارس حقه في الرفض. 

 

السعادة أولاً

وأخيراً، حان الوقت لأن نكتفي من السطح ونغطس للقاع في قضية التراضي وأن نسأل أنفسنا عن دوافعنا، وما إذا كنا نشعر بالامتلاء والإشباع في علاقات غير رضائية!

هل مُشبع للرجل السوي أن يحصل على متعة مسروقة عنوة أو مأخوذة بعنف قد يصل للقتل أحياناً؟ أم أن المعنى الحقيقي للسعادة والمتعة ينبعث من مشاركة السعادة مع الطرف الآخر؟ هل نقترب من الآخر بهدف مشاركة السعادة؟ أم بهدف إعادة تدوير العنف والكراهية وعدم القدرة على الاختيار بحرية؟

اقرأ المزيد: خمس قواعد للشريكين من أجل علاقة قائمة على التراضي

هل وجدت هذه المادة مفيدة؟

اترك تعليقاً

الحب ثقافة

مشروع الحب ثقافة يهدف لنقاش مواضيع عن الصحة الجنسية والإنجابية والعلاقات