أزمة منتصف العمر.. لم أعد الشاب الذي كنت
لا تعتبر أزمة منتصف العمر اضطراباً مرضياً، إنما هي حالة عامة، وقد لا تصيبك من الأساس، أو قد يكون تأثيرها خافتاً. ولكنها قد توجد، وقد تتخذ أشكالاً عنيفة.
عندما ظهرت بعض الشعرات البيض في رأسك لم تأخذ الأمر بجدية، وإذا باغتك أحدهم بوجودها تتهمه بأنه يركز معك زيادة عن اللزوم، وربما تتندر على ذلك مع أصدقائك الآخرين. ولكن الآن، صار البياض بيّناً، حتى أن الحلاق سألك بعدما أنهى عمله إذا كنت تريد أن تصبغ هذه الأجزاء. لم تستطع أن تستنكر قوله، يوجد شعر أبيض واضح بالفعل.
المسألة لا تقتصر على الشعر الأبيض، منذ عدة سنوات كنت تحجز مع أصدقائك ملعب الكرة لمدة ساعة، وكنت تشارك في الساعة كلها، ولكن الآن، تشعر بالتعب بعد نصف ساعة، وتطلب تغييرك، أو تطلب من أصدقائك الاستراحة قليلاً.
كنت قادراً على السهر حتى الفجر، ثم تستيقظ مبكراً في الصباح نشيطاً، ولا يعطلك السهر عن العمل، ولكن الآن، تعرف أنك تحتاج إلى النوم قبل الثانية عشر، لأنك لو سهرت ستقصر في عملك غداً.
حتى لو تناولت غداءك في المنزل، كنت تستطيع أن تسند غداءك بطعام من الشارع، طبق كشري مثلاً أو بيتزا، لكن الآن تعرف أن طبق الكشري سيتعب معدتك، وأن البيتزا ستزيد من وزنك لا محالة.
يفزعك أن المعلق الرياضي يتكلم عن اللاعب الذي بلغ الأربعين على أنه “عجوز”، وأن كونه يلعب في هذا العمر أمر إعجازي.
هناك شيء تغير، بل توجد العديد من الأشياء التي تغيرت، ليس على المستوى الجسدي فقط، بل على المستوى النفسي أيضاً.
لقد مرت سنوات عديدة من عمرك، حققت فيها بعض الأشياء، ولكنك لم تحقق العديد من الأشياء الأخرى، وأمامك سنوات عديدة أيضاً، تأمل أن تحقق فيها العديد من الأشياء، وأن تستمتع فيها بحياتك، ولكن كل العوامل التي سبقت تبدو كأنها تحدّ من هذه الأحلام.
أزمة منتصف العمر
تحدث أزمة منتصف العمر تقريباً في الأربعين، قبلها قليلاً أو بعدها قليلاً، يتساءل فيها الإنسان عن نفسه وهويته واختياراته السابقة في الحياة، وبعدما كان يعيش كما نقول (بالطول والعرض) يبدأ يستوعب أن الحياة يمكن أن تنتهي.
مصطلح “أزمة منتصف العمر” ظهر في الستينيات من القرن العشرين، وصفه عالم النفس الكندي إليوت جاك، الذي لاحظ أن مرضاه في نهاية الثلاثينيات يعانون من نوبات اكتئاب، ويتجهون لإجراء تغييرات كبيرة في حياتهم.
ومع ذلك لا تعتبر أزمة منتصف العمر في حد ذاتها اضطراباً مرضياً، إنما هي حالة عامة، وقد لا تصيبك من الأساس، أو قد يكون تأثيرها خافتاً. ولكنها قد توجد، وقد تتخذ أشكالاً عنيفة، لذلك ففهمنا لها يجعلنا نتعامل مع التقدم في العمر بشكل إيجابي، دون أن يؤثر ذلك سلباً على حياتنا.
يمكن أن نوجز علامات وجود أزمة منتصف العمر في الآتي:
* مشاعر الحزن والندم
* الانزعاج والانغماس في أحلام اليقظة
* الغضب
* الحنين إلى الماضي
* الانغماس في أنشطة مؤذية
* تغير في الرغبة الجنسية
* تغير في الطموح
لن نستطيع أن نتحدث عن كل المشاعر التي تواجهنا أثناء أزمة منتصف العمر، فهي مسألة كبيرة خُصصت لها العديد من الكتب والأوراق البحثية، لذلك نناقش هنا ثلاثة مشاعر قد تكون رئيسية في هذه المرحلة.
الوقت تأخر ولم يتأخر
It’s never too late لم يتأخر الوقت على فعل هذا أو ذاك، هذه الجملة الإنجليزية الشهيرة يسمعها الكثيرون في منتصف العمر، والغرض منها الأمل في البدء من جديد، وممارسة الأنشطة التي طالما رغبت في ممارستها.
بالطبع يوجد قدر كبير من الصحة في هذا الكلام، يمكنك أن تبدأ حياتك من جديد في أي وقت، لكن مع ذلك لا بد من بعض الحرص.
بالتأكيد لن تستطيع في سن الأربعين أن تكون هداف الدوري المصري، أو حتى لاعباً فيه، وبالطبع لن تحققي حلمك بأن تكوني راقصة باليه. البعض يذهب إلى أنشطة لا تحتاج إلى مجهود بدني، لعبة مثل الشطرنج مثلاً تتحول إلى شغف بعض من يكسر الأربعين، ويتمنى لو ذهب فيها بعيداً، ولكننا نعرف الآن أنه ينبغي أن تحترف اللعبة طفلاً حتى تصبح بطلاً فيها.
قد تعتقد أن الفقرة السابقة تحمل من المساوئ أكثر مما تحمل من المميزات، ولكن الحقيقة أنه يوجد شيء مميز جداً في كل ما سبق، وهو أنه يمكنك دوماً ممارسة هذه الأنشطة دون ضغوط.
قد تعود إلى هواية أحببتها في صغرك، أو رياضة أهملتها لفترة طويلة، والآن لا يجب عليك أن تكون أبرز شخص في هذه الهواية أو الرياضة، كل ما عليك أن تستمتع بما تفعل، ولا تشغل بالك بضغوط المنافسة أو الرغبة في التميز.
لكن قد تكون المسألة ليست مجرد هواية، أنت تريد أن تكون مميزاً، قد تريد أن تغير عملك تماماً، وتشعر أن سن الأربعين سن مناسبة.
هنا يمكن أن نقول أن الأربعين ليست عائقاً.
سأضرب مثالاً معروفاً لديك، هل تعرف نجيب محفوظ؟ بالطبع هو من أبرز الشخصيات الأدبية في مصر، بل من أبرز الشخصيات عموماً في مصر، وهو من القلائل الذين حصلوا على جائزة نوبل.
لكن توجد معلومة لا يعرفها الكثيرون عن محفوظ، وهي أنه لم يكتب الأدب بانتظام سوى منذ الخامسة والثلاثين، ونشر أول رواية له وهو في الثامنة والثلاثين، واستغرق الأمر عدة أعوام أخرى حتى حقق لنفسه نجاحاً وكرّس اسمه كأديب وروائي.
اخترت هذا الاسم لأنه الأبرز، ويمكن أن أسرد عشرات الأسماء التي يمكن الحديث عنها. المسألة لا تقتصر على المواهب الفنية أو الأدبية ولكن تسري على مجال الأعمال أيضاً.
توجد خدعة صغيرة في الموضوع، وهي أن تبدأ عملاً كان لديك خبرة ولو قصيرة به في صغرك، سيساعدك ذلك على مستوى كبير، خاصةً وأنك تملك خبرة إضافية الآن، ولكن عليك أيضاً أن تستوعب أن الأمر لا يخلو من الصعوبات، وهو مثل كل شيء يحتاج إلى عمل وصبر كبيرين.
لكن مع ذلك علينا أن نكون حريصين، هل تريد تغيير حياتك بالكامل؟ وظيفة أخرى مثلاً غير وظيفتك الحالية؟ إذا كنت تمضي في مسار مهني لمدة عشر سنوات مثلاً فقد يكون مفيداً لك أن تكمل استثمارك فيه بدلاً من تغييره.
كل ما أود قوله هو الحرص، وتأكد إن التغيير هو ما تريده، ولا يأتي كرد فعل مؤقت للمشاعر التي يفرضها عليك رقم الأربعين.
الندم على ما سبق
هل تذكر عندما كنت مراهقاً، وكنت منزعجاً من أبويك ومن العالم، وتشعر بأن كل الأبواب مغلقة في وجهك، وبداخلك طاقة غضب لا تعرف أين يمكن أن تنفذ، كانت فترة صعبة وكنت تشعر أنها لن تنتهي، ولكنها انتهت.
هذا هو الحال نفسه مع أزمة منتصف العمر، سيمر هذا الضيق بالفعل، وتخبرنا الأبحاث العلمية أنه مع تجاوز أزمة منتصف العمر على الأرجح ستكون شخصاً أسعد حالاً. معتمدين على نظرية الـ U والتي تقول أنه من المتوقع أن تشعر أن مستويات السعادة لديك أقل في الأربعين، ولكنها ستعود مرة أخرى بعد عدة سنوات إلى مستوياتها الطبيعية.
ومثلما كان الغضب أثناء المراهقة نابعاً بشكل كبير من أن المستقبل غير واضح، فالغضب في منتصف العمر نابع بشكل كبير من أن الماضي كان يمكن أن يتخذ مساراً مختلفاً.
من الطبيعي في هذه الفترة أن تقيم حياتك السابقة، الآن مر ما يكفي من السنوات، وجرت الكثير من الأمور، واتخذت العديد من القرارات. وبالطبع اتخذت قرارات خاطئة، وبالطبع تعرضت للخسارة أو الفقدان أو غيرها من مفاجآت الحياة.
لكننا في خضم ذلك ننسى معلومة مهمة، أنه لا يمكن أن تكون قد وصلت إلى الأربعين “صاغ سليم”، بدون أن يكون قد حدث أي شيء سلبي في حياتك. دعك من صور الأربعينيين على إنستجرام الذين يبدون قد مضوا في الحياة بيسر ودون تأثير، هم يضعون فلاتر على حياتهم مثل الفلاتر التي تخفي العيوب في وجوههم أو أجسادهم.في كتابه “منتصف العمر: مرشد فلسفي”، يضرب أستاذ الفلسفة كيران ساتيا مثالاً بأنك إذا حصلت على جائزة مالية وخُيّرت بين أن تتلقى 50 دولاراً أو مائة دولاراً، ستختار المائة ببساطة، وبعد مرور سنوات لن تشعر أنك أخطأت. ولكن إذا خُيِّرت بين حضور محاضرة في مجال تحبه، وحضور حفل عيد ميلاد صديقك، ستشعر أن القرار أصعب، وحين تتخذه، ستشعر ببعض الخسارة لأنك لم تتخذ الخيار الثاني.
في المثال الأول أنت واقع بين خيارين يمكن تقييمهما كمياً، وفي هذه الحالة يكون الخيار سهلاً، ولكن هذا النوع من الخيارات نادر. في الحالة الثانية أنت تختار بين حبك للمعرفة وبين حبك لصديقك، وهذه مسألة لا يمكن قياسها كمياً، وبالطبع ستحمل قدراً من الفقدان.
قد تظن أنك لو اتخذت هذا المسار المهني كنت ستتحول إلى شخص أسعد حالاً، قد تشتاق إلى خطيبتك الأولى بسبب بعض المشاكل التي تواجه زواجك الحالي، لكننا نغفل أثناء ذلك أننا لا نعرف أبداً إذا كان القرار الآخر كان سيجلب لنا السعادة التي نفتقدها حالياً.
مراجعة حياتك وأخطائك ليست أمراً سيئاً، سيفيدك هذا في سنواتك الممتدة القادمة. استغل هذه الفرصة لإعادة تقييم حياتك، ولكن كن إيجابياً، أنت تفعل ذلك من أجل الحاضر والمستقبل لا من أجل الانغماس في الماضي.
ليت الشباب يعود
في العشرينيات وبداية الثلاثينيات كنت تنغمس في العديد من العادات السيئة دون أن تشعر بأثر ذلك، طعام غير صحي، حياة لا تمارس فيها الرياضة، الانغماس في التدخين أو الكحول، السهر وعدم النوم بشكل كافٍ.. إلخ. كل هذا دون أن يقدم لك جسدك أي إشارات عن ضيقه بذلك.
الآن بدأ جسدك يطلق بعض التحذيرات، لا نتمنى أن تكون أصبت بأي مرض، ولكن مثلما تقدمت خبرتك بالحياة، صارت لديك خبرة كافية بجسدك أيضاً، وصرت على دراية معقولة بما يفيده وما يرهقه.
إن لم تكن على هذه الدراية ننصحك بزيارة طبيب/ة لإجراء الفحوص اللازمة حتى لو لم تكن تعاني من أي تعب.
في هذه اللحظة يمكن أن تتجه إلى نوعين من التفكير، إما الأسى على ما فات (ليت الشباب يعود يوماً)، أو البدء من جديد.
تعرف أناس من حولك -حتى لو من خلال المواقع الاجتماعية- بدأوا في منتصف العمر ممارسة الرياضة أو الاتجاه للطعام الصحي، أو منعوا عادة سيئة، أو نظموا مواعيد نومهم، أو صاروا يعتنون بنفسهم بشكل أكبر.
هذه فرصة مناسبة، ما زلت بصحتك، وأيضاً لديك دراية أكبر بطبيعة جسدك، وبالحفاظ على العناية الذاتية تستطيع أن تعيش سعيداً وصحيح الجسد لسنوات ممتدة.
نصائح للمرور من منتصف العمر بسلام
أخيراً، نستعين بموقع help guide، الذي قدم عدة نصائح للمرور من فترة منتصف العمر بسلام، ونوجزها في التالي:
1. تقبَّل التغيير
اعرف أن التغيير هو الثابت الوحيد في حياتنا، وعليك أن تتقبل ذلك وتتعايش معه.
لا ننصح بكبت مشاعرك، يمكن كتابتها أو النقاش فيها مع أصدقاء تثق بهم، وقد تكون زيارة الطبيب/ة النفسي/ة مفيدة أيضاً، حتى لو لم تكن تعاني من أزمة حادة.
تقبل أيضاً أن هناك أشياء في الماضي لم تكن تستطيع التحكم فيها، وهذه نصيحة هامة في حياتك المقبلة.
من المتوقع أيضاً أن يؤدي تقدمك في العمر إلى اتخاذ أدوار جديدة، الأبوة مثلاً، أو رعاية أبويك، أو غيرها من الأدوار، حاول أن تتعامل بهدوء مع كل هذه التغيرات.
2. حافظ على المعنى في حياتك
من الطبيعي أن تمر ببعض الصعوبات في حياتك الحالية، مشاكل في العمل، مشاكل في الحياة الزوجية.. إلخ، قد تكون هذه المشاكل هي التي تثير مشاعر عدم الرضا لديك، وتشعر أنك أخطأت في مسار حياتك في الماضي، ولكن قد لا يكون هذا صحيحاً، ضع المشاكل في نطاقها، وحاول السعي لتوسيع أفقك.
ابدأ في التعرف على هوايات جديدة، أو جدد شغفك بهواياتك القديمة، وقد يكون التطوع وخدمة المجتمع ومساعدة الآخرين بأي شكل مفيداً لك مثلما هو مفيد للآخرين.
3. اجعل العناية الذاتية أولوية
كما ذكرنا، هذه فرصة للتركيز على العناية الذاتية، يمكن البدء في ممارسة الرياضة الخفيفة وكذلك الاهتمام بالأكل الصحي والنوم بشكل كافٍ.
ضع أهدافاً واقعية وافعل هذه الأشياء بالتدريج.
4. أعِد بناء تصورك عن مفهوم منتصف العمر
مثلما هو عنوان المقال، منتصف العمر يرتبط دوماً بكلمة “الأزمة”، لأننا عادةً ننظر إلى الجوانب السلبية فيه ونغفل الجوانب الإيجابية، قد نغفل مثلاً أن تجاربنا السابقة جعلتنا أكثر خبرة وحكمة.
امتن للأشياء الطيبة في حياتك، وبإنجازاتك السابقة، وفكر في أخطائك على أنها فرصة للتطور.
تاريخ آخر تحديث: 29 يوليو 2024.
شكرا لك على هده المقالة الرائعة أنا الآن أعاني من ازمة منتصف العمر في هذه المرحلة ولقد افادتني هذه المقالة بشكل لايمكن إن يوصف ….كانت ملمة جدا بالموضوع. وهو ازمة منتصف العمر الذي بتنساه الكثيرون على إنه مرحلة عادية ولكن في الاساس هومرحلة حساسة في حياة من مربه .