الحب من أول نظرة
بالحقيقة؛ ليس ثمة ما يمكن أن نُطلق عليه “الحب من أول نظرة”، فالحب شعور معقد إلى أبعد حد، ولا يمكن بحال أن يُختزل بنظرة، وعلى الوجه الآخر للحقيقة – حيث انه ليست هناك حقيقة مطلقة – يمكن أن يوجد الحب من أول نظرة، ولكي لا نبدو متناقضين ومربكين، دعنا نفهم في الأول “ما هو الحب؟”
نحن حيوانات عليا؛ حيوانات ناطقة عاقلة ناضجة عليا، نكتسب – رغماً عنا وبإرادتنا، الكثير من العادات والصفات. نتعلّم وننتقي ونرشّح خبراتنا بمرور الزمن والوقت.
نرفض ونقبل ونحتفظ بسلوكيات وعادات وصفات وحتى روائح: الجد والأب والأم والأخت من أولى مصادرنا القريبة الحميمة الثرية التي تقرّبنا من الآخرين والعالم، وربما تقرّبنا نحن إلى أنفسنا. الحب أولى العواطف التي نتعرض لها بدءاً من رحم الأم، مروراً بحضنها وصولاً لنهدها.
درجات…
كل تلك درجات من سلم الحب نصعدها قبل حتى أن ندرك، وحين نحاول جاهدين أن نحبو ونقع ونتلقى المساعدة الأولى ممن يحبونا، نرتقي درجة أخرى بذلك السلم.
حين نقتسم الحلوى مع أختنا الصغرى نصعد درجة أخرى، وحين ندافع عنها ضد مضايقات الصبيان نكون كمن يرتقي بثبات وعن رد فعل ووعي. تلبية طلبات الأم من السوق نوع آخر من الحب والشعور بالمسئولية، احترام الأب ومشاركة الطعام على مائدة واحدة،…
شبكة معرفية
كل ذلك يصنع شبكة معرفية من معاني وتجليات الحب: حنان الأخوات الفتيات، وملامح الأم الطيبة الحنون تستقر بسكينة وهدوء بقاع لا وعينا، ويتولى نظام تشغيلنا حفظها للأبد بمكان آمن.
كيف يتحرك الآخرون القريبون المحيطون بنا، كيف يتكلمون ويتصرفون، كيف يضحكون ويختارون ملابسهم، كيف تبدو هيئتهم وهم منهمكون في العمل بجدية، أو في المرح أيضاً بجديه، هل يميلون إلى العجلة أم التأني حين يسيرون؟
هل هم عنيفون أم طيبون أم مزيجاً من هذا وذاك؟ هل تلمع عيونهم عند الحديث؟ هل ينظرون مباشرة بعيون من يحدثونهم؟ هل هم مبادرون أم انسحابيون؟ هل يؤمنون بقناعاتهم الشخصية ويدافعون عنها أم يفكرون كما تفكر البقية؟
نرسم صورة طبق الأصل له ، صورة تكونت عبر سنوات طويلة بلا وعينا،..
تفاصيل تشكلت…
عبر كل تاريخنا الزاخر بذلك الزخم من العادات والتقاليد والروائح والأشكال والصفات؛ ينمو حبنا الأول، الذي يتشكل ببطء شديد كما تشكلت القارات قديماً، فتتكون لدى وعينا صوره مسبقة عن شريكنا المتوقع أو شريكنا المستقبلي.
نحن فعلياً نرسم صورة طبق الأصل له ، صورة تكونت عبر سنوات طويلة بلا وعينا، وعكف على تثبيتها نظام تشغيلنا الفائق الحساسية: الطول، التكوين، لون الشعر، لون العين، لون البشرة، شكل الابتسامة، شكل الأسنان، الحركة المتأنية، الملابس البسيطة المريحة، حجم النهود، استدارة الأرداف، لمعة العينين، الخجل أو الثبات، المرح أو التحفظ، نوع الحذاء، تفاصيل تفاصيل تفاصيل…
ربما تبدو غريبة وعجيبة، ربما حتى تبدو لك غريبة الآن وأنت تقرأها، ولكن ومن عجب، أن تلك التفاصيل الغريبة شكلت في مرحلة مبكرة وعينا نحو من سنحب وكيف سيبدو.
حين نراه، نقع مباشرة بهواه، كمن يسير ويقع فجأة ببئر أو هوة، إلا أن بئر أو هوة الحب، أو الحب من أول نظرة، بئر نحن صنعناه، عبر ماضينا، وخبراتنا السابقة، وكنا طوال حياتنا نتوجه إليه رويداً رويداً، كمن نبحث عنه، أو بالأحرى، لأننا نبحث عنه.
نجد حواسنا تتحفز بشكل استثنائي غير مسبوق، ونشعر أن كل جوارحنا تكاد تنطق وتنطلق..
حين تقع تلك النظرة الأولى على شخص ما؛ ونجد حواسنا تتحفز بشكل استثنائي غير مسبوق، ونشعر أن كل جوارحنا تكاد تنطق وتنطلق، وتستبد بنا رغبة محمومة بامتلاك ذلك الشخص، فذلك قطعاً ليس “حب من أول نظره”، إنه بالحقيقة حب من تراكم خبراتنا ورغباتنا عبر سنين حياتنا، مثلنا الأعلى ونموذجنا الأكمل عن شريك حياتنا، هويتنا الشخصية التي دأب لاوعينا على حفرها بأناة وأيمان لا يكل، كل ما كنا نأمله ونتأمله ونبحث عنه.
معبودنا الذي كنا ننحته على طول الطريق، بالأحرى؛ بجماليون.
بجماليون؛ في الميثولوجيا الإغريقية القديمة، نحّات عظيم، صنع تمثالاً من العاج يمثّل امرأة جميلة، ثم هام بها، ويوم عيد فينوس، دعا إلهة الحب فينوس أن تحيي التمثال، فأحيته، فلما عاد من العيد ووجدها حية، سمى التمثال الحي جالاتيا وتزوجها.
المدونات تعبّر عن رأي كتابها ولا تعبّر بالضرورة عن موقف “الحب ثقافة”