أنماط التعلق في العلاقات العاطفية: كيف تؤثر طفولتنا على حياتنا العاطفية؟
هل سبق ولاحظت وجود شكل معين لكل علاقاتك؟ أو أنك غالبًا ما تقع/ين في نفس المشاكل في كل علاقة؟ وهل يمكن لطفولتنا وظروف تربيتنا وتنشئتنا أن تتحكم في تشكيل أنماط علاقاتنا؟ وتحديد مشاكلنا التي نقع فيها أو تلك التي نتجنبها؟ هل يمكن للطفولة التأثير على الحياة العاطفية للبالغين؟ هذه هي الأسئلة التي تطرحها علينا نظرية التعلق(Attachment Theory) وتجيبنا عنها أيضًا بنماذج سلوكية معينة تسمى بأنماط التعلق.
فلنبدأ بسؤال: ما هي نظرية التعلق وما معنى أنماط التعلق؟
بدأت النظرية مع الطبيب والمحلل النفسي البريطاني جون بولبي (1907 – 1990) والذي رأى أن سلوكيات تعلق الأطفال بالآباء والأمهات جزء من نظام سلوكي يضمن لهم أنهم محبوبون ومرغوب فيهم. عرف بولبي التعلق على أنه الرابط الذي يتكون بين الطفل ومانح/ة الرعاية (الأم والأب في معظم الأحوال)، وقد رأى أن هذه السلوكيات تؤثر بشكل كبير على العلاقات العاطفية في حياة البالغين. طورت ماري أينسورث عالمة النفس الأمريكية (1913 – 1999) هذه النظرية في أواخر الستينيات لتخلص إلى استنتاج أنماط أربعة لتعلق الإنسان بالآخر تنبع بشكل أساسي من علاقة الطفل بمانحي الرعاية.
تأثر بولبي في تكوين نظريته بآراء سيجموند فرويد صاحب الآراء الشهيرة عن تأثير علاقة الأطفال بالأم والأب على تكوين حياتهم الجنسية فيما بعد، ولكن لم يتفق بولبي مع فرويد فيما يخص نظرية الدافع والتي تشير إلى أن كل السلوك الإنساني يمكن فهمه بإرجاعه إلى الجنس. أما في تطويرها للنظرية، فقد اعتمدت ماري أينسورث على تجارب أجرتها على أطفال فصلتهم لمدة قصيرة عن مانحي الرعاية ثم أعادتهم إليهم وراقبت ردود الأفعال المختلفة، وهنا ظهرت الأنماط الأربعة.
ما هي أنماط التعلق الأربعة؟
الأنماط الأربعة هي التعلق الآمن Secure Attachment والتعلق القلِق المهموم Anxious Preoccupied Attachment والتعلق التجنبي الرافض Avoidant Dismissive Attachment والتعلق التجنبي الخائف Fearful Avoidant Attachment. وهناك بعض الأبحاث التي تربط بين نمط التعلق والتصور الذاتي/احترام وتقدير الذات. وفيما يلي، نستعرض الأنماط بالتفصيل وتصور كل نمط منهم لذاته.
- التعلق الآمن (Secure Attachment):
تميل علاقات أصحاب نمط التعلق الآمن إلى أن تكون صحية. غالبًا ما تعتمد هذه العلاقات على الصدق والشفافية والانفتاح في الحديث عن المشاعر. وغالبًا ما تكون متساوية، لا يد عليا فيها لأحد الأطراف على حساب الأطراف الأخرى. والأمان هنا لا ينفي حدوث سوء فهم أو مشكلة بين الأطراف! يمكن لأصحاب التعلق الآمن أن يتصادموا في بعض الأحيان مع الشركاء العاطفيين ولكنهم يتواصلون بشكل بناء للعمل على إيجاد حلول مرضية وإيجاد أرضية مشتركة بدلًا من تجنب المشكلة والتظاهر بأن كل شيء على ما يرام أو الهجوم على الشريك وإلقاء كل اللوم عليه/ا. وقد توصلت الدراسات إلى أن أصحاب التعلق الآمن عادة ما تكون صورتهم عن أنفسهم صحية وجيدة. - التعلق القلق المهموم (Anxious Preoccupied Attachment):
عادة ما يأتي نمط التعلق القلق المهموم من اضطرابات في مستوى الاهتمام أثناء الطفولة كأن يكون أحد مانحي الرعاية مهتم ثم يفقد الاهتمام أو العكس، أو يتأرجح مستوى الاهتمام، وبذلك فإن تصرفات مانح/ة الرعاية تكون غير متوقعة، وعليه فإن الطفل يطور تعلق متوتر أو قلق مع هذا المانح أو مع جميع مانحي الرعاية. يمكن أن يتطلب الاهتمام بالقرب الزائد أو بالصراخ. حين يكبر هذا الطفل، من المتوقع أن يطوروا مفهوم خيالي عن الحب وعن العلاقات لأن هذا الخيال أسهل من الواقع. وعادة ما ينجذب أصحاب التعلق القلق لشركاء يمكنهم خدمتهم، فهم عادة متطلبين وشديدي التعلق بالشركاء. كما يميلوا إلى تحليل وتأويل كل المواقف بشكل أكبر من اللازم، وعادة ما يكونوا مزاجيين.
- التعلق التجنبي الرافض (Avoidant Dismissive Attachment):
فلنتصور هذا السيناريو: هناك طفل صاخب ولكن والده يؤمن بالصرامة في التربية. وكلما هم هذا الطفل بالتعبير عن أي مشاعر لديه كالحماسة أو الحزن، ينهره الأب فالحماسة الزائدة تصيب الأب بالصداع، والحزن الزائد ليس من شِيَم “الطفل الجيد/الرجل/إلخ”. هنا، ينشأ طفل يظن أن مشاعره تسبب مشكلة، وعليه دائمًا تجنب المشاعر ورفضها بالمرة، عن طريق كتمانها. وحين يكبر هذا الطفل، فإننا أمام شخص لا يستطيع الدخول في علاقة لأنه لا يعبر عن مشاعره. يبدو للآخرين كشخص “بارد” عاطفيًا، مكتفي بذاته، ومستقل ويتفادى درجات القرب الحميمية لئلا يقع في مشاعر لا يعرف كيف يعبر عنها أو يوصمها بالهشاشة التي لا يرغب فيها. وإذا انخرط في علاقة، عادة ما يواجه مشاكل في التعبير عن المشاعر. وبمجرد أن يخبره الشريك العاطفي أنه راحل، يرحب بهذا وقد يتظاهر أن الأمر لا يهمه. كما أن أصحاب هذا النمط التجنبي الرافض ليس لديهم الكثير من الصداقات القريبة لنفس الأسباب. - التعلق التجنبي الخائف (Fearful Avoidant Attachment):
يتسبب في هذا النمط الإيذاء المباشر أو غير المباشر أو الإهمال من قبل مانحي الرعاية للطفل. تتشتت صورة الحب في ذهن هذا الطفل لأن الأشخاص الذين يجب أن يغدقون عليه الحب والاهتمام يؤذونه عاطفيًا أو جسديًا أو يهملونه بالمرة. وحين يصبح هذا الطفل بالغًا، يكون خائفًا من القرب الزائد ومن البعد الزائد عمن يحب. كما أن بعض أصحاب التعلق التجنبي الخائف قد يعتقدون أن المشاعر الإنسانية غير مهمة في المقام الأول، وبالتالي فلا معنى للعلاقات، ولكن يختلف هذا التجنب عن التجنب الرافض لأن منبعه ليس الثقة الزائفة بالنفس في حال الرافض، بل منبعه الخوف من الهجران والإهمال العاطفي. وغالبًا ما يكونوا في صراع داخلي بين الرغبة في الدخول في علاقة وبين مقاومة الدخول في علاقة. ولهذا فإن نمط علاقاتهم يكون في شكل تعلق شديد بالشريك حين يبدي الشريك عدم الاهتمام أو الرفض. ولهذا فهم عرضة أكبر للوقوع في علاقات مؤذية.
أما عن التصورات الذاتية في أنماط التعلق غير الآمنة الثلاث، فعادة ما يعاني أصحاب التعلق القلق والتجنبي بنوعيه من عدم الثقة بالنفس ومن صورة ذاتية مشوشة. يرجع هذا بشكل رئيسي لأن البشر يكوّنون تصوراتهم عن ذواتهم وعن الحياة في الطفولة المبكرة، وبهذا فإن ردود الفعل الخارجية من تذبذب الحب والاهتمام (القلق)، أو إخراس وكبت المشاعر (التجنبي الرافض)، أو الإيذاء أو الإهمال (التجنبي الخائف) يشكلون قوالب خارجية يصب فيها الطفل صورته عن ذاته.
ولكن لماذا نطوّر أنماط تعلق بالأساس؟
في طفولتنا المبكرة، لا نعرف كيف نتعامل مع الحياة، وبالتالي يتطور لدينا نظام تعلق كنوع من أنواع التأقلم على نظام العائلة ويمتد أثر هذا النظام ليتحكم في أشكال علاقاتنا وطريقة سلوكنا مع شركائنا العاطفيين كبالغات وبالغين.
إحصائيات أنماط التعلق:
بحسب Psychology Today، فإن الإحصائيات في أوروبا وأمريكا الشمالية هي:
- التعلق الآمن: 55%
- التعلق القلق: 20%
- التعلق التجنبي الرافض: 20%
- التعلق التجنبي الخائف: 5%
ولكن لا توجد إحصائيات في العالم العربي عن هذه النسب.
وماذا الآن؟
هل وجدت صفات من أنماط التعلق غير الآمنة في نفسك أو علاقاتك؟ أولًا يجب تحديد ما إذا كانت الصفات التي وجدتها فعلًا مرتبطة بالطفولة وتمتد جذورها إلى مانحي الرعاية في الطفولة، يعتبر هذا تمرين تحليلي مبدئي. إذا وجدت/ي أن لديكِ أحد أنماط التعلق هذه، فلا يعني هذا أنك كل مستقبلك قد تحدد الآن وأن التغيير مستحيل. الخطوة الأولى دائمًا في التقدم هي إدراك أين نقف.
وهذه المقالة تساعدك في ذلك، فهم أين تقف/ين وكيف كانت طفولتك وكيف أثرت سلوكيات من حولك في تشكيل اختياراتك في الاستمرار في بعض العلاقات أو إنهاء بعضها، أو تجنبها كلها. بعد هذا التحليل المبدئي، ستفهم/ين لماذا قمت بما قمت به. ويمكن من هنا الانطلاق إلى فهم أفضل وأعمق لعلاقاتك العاطفية.