تقديم خدمة طبية واعية وتلقيها

زيارة الطبيب/ة، خاصةً حين تكون الشكوى متعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية، قد تحمل العديد من المخاوف، وقد تعطل هذه المخاوف الوصول إلى قرارات صحيحة.

لا بد أنك احتجت في وقت ما إلى زيارة طبيب/ة النساء، وإلى جانب حمل هم الشكوى التي ستعبرين عنها إليه/ا، قد تدور في ذهنك أسئلة أخرى متعلقة بخصوصيتك أثناء الزيارة وحقوقك كمريضة، ومن أمثلة هذه الأسئلة:

هل أكشف هذه المنطقة؟

هل يحق للطبيب/ة لمس هذا العضو؟

 هل أخبر مقدم/ة الخدمة بهذا الأمر؟

 هل يحق لي الاستفسار عن كذا؟

وغيرها من الأسئلة التي تشتت المريض/ة عن الهدف الرئيسي من زيارة الطبيب/ة، وتعيق مقدم/ة الخدمة عن القيام بدوره/ا، وتجعل تلقي الخدمة الطبية، الذي يُفترض أن يكون حقاً إنسانياً أساسياً، عملية معقدة.

علينا في البداية أن نعرف أنه في أي علاقة بين طرفين توجد موازين قوى، وتوجد قوانين تحكم، سواء كانت تلك القوانين معلنة أو ضمنية.

ولكي تكون العلاقة ناجحة لا بد أن تتعادل هذه الموازين، وأن تعمل القوانين على ضمان حقوق كل طرف من طرفيها.

وفي ظل تفاوت العلاقات يجهل الكثيرون، وربما يتجاهلون عمداً، العلاقة الخدمية المتبادلة بين مقدمين/ات الخدمة ومتلقيها، وضمن هذا النوع المُتجاهل من العلاقات تأتي العلاقة العلاجية. لذلك نرى أنه من الضروري أن يفهم كل من المرضى والأطباء طبيعة هذه العلاقة، وموازين القوى بها، وبالتالي يصبحوا على وعي أكبر بحقوقهم وواجباتهم.

حقوق المريض في المواثيق الدولية

يعتبر الحق في الصحة من الحقوق الأساسية التي أكد عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو لا يتوقف عند الحصول على خدمة جيدة فحسب، بل يشتمل على العديد من الحقوق التي تتقاطع معها، ومنها:

  • حق امتلاك الجسد وحمايته من الانتهاك
  • حق اتخاذ القرار عن وعي
  • حق الوصول إلى المعلومات
  • الحق في المساواة وعدم التمييز

ولخصوصية هذا الحق وما يتقاطع معه من حقوق أخرى، كان طبيعياً أن نجد الكثير من الضمانات التي تساعد على تطبيقه، ولكن فيما يتعلق بالصحة الجنسية، وبسبب حساسية الموضوعات المتعلقة بها في العالم كله، وفي العالم العربي بشكل خاص، قد يكون توفير هذه الضمانات أصعب.

الصحة الجنسية.. ما لم نستطع البوح به

الطبيب/ة ابن مجتمعه، ولا تجعله مسؤوليته الصحية ينفصل تماماً عن هذا المجتمع، فإذا كان المجتمع يميل إلى السيطرة الأبوية والوصاية على الأفراد، سيكون الطبيب/ة أقرب لذلك.

بالإضافة إلى ذلك، مسؤوليات الطبيب/ة تجعله يمثل نوعاً من السلطة المعرفية على المريض/ة، فالطبيب/ة صاحب الكلمة الأخيرة بحكم موقعه وبقدر ما يملك من معلومات، وقد يزيد هذا الحس الوصائي في مجتمعاتنا، خاصةً إذا كان الطبيب رجلاً وكانت المريضة امرأةً.

ولأن “الطبيب يعرف أكثر”، تُرتكب العديد من الانتهاكات، خاصةً لعدم وجود كود أخلاقي واضح يحمي المريض وقانون عمل يحمي مقدمي الخدمات الطبية.

من خلال عملي كطبيبة شهدت الكثير من النساء -خاصةً إن كُن مراهقات أو من الفئات التي لديها ظروف خاصة كاللاجئات أو صاحبات الإعاقة أو الأقليات الجنسية-  لا يتمكنّ من الحصول على خدمة جيدة فيما يتعلق بصحتهن الجنسية.

مع الوقت أدركت أن الأمر لا يتعلق بالنساء أو الفئات التي هُمشَّت عمداً، بل توجد مشكلة في الطريقة التي يتعاطى بها مقدمو الخدمات الطبية مع قضايا الصحة الجنسية، فهناك فجوة بين القوانين والطريقة التي تُطبق بها، وبين المفاهيم التي تُعلي الوصاية المجتمعية حتى على حساب الطب.

هذه الوصاية تُرسي ثقافة العيب لدى الرجال والنساء، فمن العيب أن يعاني الرجل من اضطراب جنسي، ومن العيب أن تشكو امرأة من عدم قدرتها على الاستمتاع بالجنس.

مثلما ترسخت هذه الثقافة في المجتمع بشكل عام، ترسخت لدى عدد كبير من الأطباء، وانتهى الأمر بأن صارت جنسانية الأشخاص وحقهم/ن في اتخاذ قرارات متعلقة بها مسألة هامشية.

ما يحق وما لا يحق

من خلال عملي في مشروع الحب ثقافة لاحظت فجوة معرفية فيما يتعلق بعلاقتنا بأجسادنا، وتظهر هذه الفجوة في علاقتنا فيمن يعطي لهم/ن القانون الحق بلمس أجسادنا.

يُوضَع مقدمو الخدمة الطبية في سياقات تعطيهم هذا الحق سواء كنا واعين -أثناء الكشوف السريرية أو الفحوص المعملية- أو إذا غاب عنا الوعي، مثلما في الحوادث وطرقات الطوارئ وغرف العمليات الجراحية.

للإجابة على سؤال ماذا نتوقع عند تلقي خدمة طبية، يمكننا تقسيم السؤال إلى عدة أسئلة فرعية والإجابة على كل منها على حدا.

ماذا نتوقع من مقدم الخدمة الطبية بشكل عام؟

  1. الحفاظ على أعلى درجات المهنية عند إطلاق الأحكام، فعلى سبيل المثال لا يصح أن يجعل الطبيب/ة انحيازاته تدفعه للتشخيص بشكل خاطئ، أو التصرف بشكل غير لائق مع متلقي الخدمة.

2. تقديم كافة المعلومات الخاصة بالحالة وشرح الإجراء الطبي وخطواته باستفاضة، والتعاون مع المريض/ة في وضع الخطة العلاجية التي تناسب الحالة، ليس من الناحية الطبية فحسب، بل يجب مراعاة الجوانب الاجتماعية والمادية والخلفية الثقافية لمتلقي الخدمة.

3. الإجابة بشكل مفصل عن كل أسئلة المريض/ة بطريقة تتناسب مع قدرته/ا على الاستيعاب.

4. احترام حق المريض/ة في قبول الإجراء الطبي أو رفضه، والسعي لتقديم بدائل يمكن الاتفاق عليها.

5. عدم ممارسة وصاية أبوية أو أخلاقية على المريض/ة سواء باتخاذ قرارات منافية لرغبته/ا، حتى وإن كانت لضرورة طبية، أو دفعه/ا لقرار دون تقديم الحد الكافي من المعرفة، والتي تؤهله/ا لاتخاذ قرارات تتعلق بجسده/ا.

6. احترام خصوصية المريض/ة وعدم الكشف عن أي معلومات لم يرغب بالإدلاء بها.

7. احترام الكرامة الإنسانية والحفاظ على خصوصية الجسد.

ماذا نتوقع من مقدم/ة الخدمة الطبية فيما يخص الصحة الجنسية؟

من المُفترض أن يتم تطبيق البنود الأخلاقية السابقة على جميع الخدمات الطبية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالصحة الجنسية، يصبح الصمت بطلاً لقصص لا تُروى، بدايةً من تجاهل شكاوى النساء أو الاستخفاف بها، إلى الشهادات التي تتضمن اعتداءات جسدية. هناك الكثير من الانتهاكات التي تحدث فقط لأننا نتحدث عن جنسانيتنا، مثل:

1.  وضع فرضيات عن الحياة الجنسية للأشخاص وتصديقها والتعامل على أساسها (على سبيل المثال يتجاهل الكثير من مقدمي/ات الخدمة الطبية السؤال عن التاريخ الجنسي لمتلقي الخدمة إذا كُتب في الحالة الاجتماعية غير متزوج/ة، وعلى الرغم من أن هذا التصرف يبدو عادياً في نظر غير المتخصصين، إلا إنه يمثل العائق الأكبر أمام الحصول على خدمة طبية جيدة).


2. تجاهل شكاوى النساء وعدم الاعتراف بآلامهن، فللنساء تاريخ طويل مع ما أُطلق عليه اصطلاحاً (هستيريا)، والتي لا تمثل سوى مجموعة أعراض لم ينجح الأطباء في تشخيص سببها، لتظل تهمة ملاصقة للنساء حينما يذهبن لطلب خدمة طبية.


3. إطلاق حكم طبي بناءً على وصم بعض الفئات (فعلى سبيل المثال يخلط بعض مقدمي/ات الخدمة الطبية  بين قناعاتهم/ن الشخصية وبين الدلائل العلمية التي توضح الطريقة الصحيحة لتشخيص الحالات وتقديم الخدمة المناسبة بالتبعية، ويحدث ذلك خاصةً مع الفئات الموصومة اجتماعياً كالعاملات بالجنس أو المجتمعات الكويرية).


4. الترفع عن تقديم المعلومات الوافية بخصوص الحالة نظراً لمعايير اجتماعية أو قناعات دينية (على سبيل المثال لا يشرح الكثير من الأطباء التأثيرات التي قد تحدثها بعض الأدوية -مثل الأدوية المضادة للاكتئاب- على الحياة الجنسية للمراهقين/ات لاعتقادهم أنها معلومة غير ضرورية في هذه المرحلة وبافتراض أن جنسانية المراهقين/ات أمر ليس له أهمية).


5. عدم احترام بعض مقدمي/ات الخدمة الطبية لخصوصية الأجساد (فبعض مقدمي/ات الخدمة الطبية لا يأخذون إذن المريض قبل لمسه أو تعرية جزء من جسده إن كان رجلاً). وفي العموم ينبغي للطبيب/ة، سواء كان متلقي الخدمة امرأةً أو رجلاً، أن يشرح سبب لمس هذا الجزء من الجسد و طلب كشفه أو تعريته.

6. التمييز ضد بعض الفئات أثناء تقديم الخدمة الطبية، مثل ذوي/ات الاحتياجات الخاصة أو حاملين/ات فيروس نقص المناعة البشري أو العابرين/ات جندرياً.


7. الوصاية على قرارات المريض/ة. وحين يتعلق الأمر بجوانب الصحة الجنسية لا تحدث الوصاية من منطلق طبي فقط (لأن الطبيب/ة يعرف أكثر) بل من منطلق أخلاقي مدفوع بانحيازات مقدم/ة الخدمة وتصوراتهم/ن الشخصية المسبقة عما يجب أن تكون عليه الحياة الجنسية للأفراد، مما يتماشى مع المنظومة القيمية للمجتمعات.

كيف تُبنى علاقة متوازنة بين الأطباء والمرضى؟

عندما يتبادر إلى أذهاننا هذا السؤال سنجد أنه يحمل العديد من الأوجه، والإجابة عليه تتطلب ساعات طويلة من تحليل الأسباب وتفنيدها، فهناك أسباب تتعلق بمتلقي الخدمة ذاته، وأخرى تتعلق بالمنظومة.

ولكن كي نجد المَخرج علينا -كمقدمي/ات خدمة طبية- العمل على ما يمكننا تحسينه، وهي المهارات التي يصعب اكتسابها من خلال دراسة نظامية، وأهمها مهارات التواصل والتي يمكن تحسينها عن طريق التالي:

  1. التفكير في أفضل طريقة لتوصيل المعلومة إلى المتلقي.
  2. اختيار الكلمات المناسبة التي لن تسيء إليه/ا، أو يُنظر إليها بشكل سلبي.
  3. تقسيم المعلومات إلى أجزاء صغيرة يسهل فهمها، والتأكد من أن المريض/ة وصل/ت إلى فهم واضح قبل التقدم في المحادثة. إن مطالبة المرضى بالتأكيد على المعلومات في منتصف المحادثة والتلخيص في النهاية أمر فعال دائماً، ويضمن مشاركة الطرفين لنفس المعلومات وخطط العمل.
  4. التعاطف وعدم التقليل من الصعوبات التي يواجهها المرضى.
  5. مشاركة المرضى في صنع القرار العلاجي بدلاً من أن يظلوا في الظلام.
  6. النظر في دور شريك/ة المريض/ة أو مقدمي/ات الرعاية أثناء الاستشارة.
  7. استخدام مهارات التواصل غير اللفظي كلغة الجسد والتواصل بالنظرات مع الحفاظ على المساحة الشخصية للمرضى.

وأخيراً، ما الذي يمكننا فعله كمتلقين للخدمة عند اللجوء إلى الاستشارات الطبية؟

كل ما علينا فعله هو كسر موروثنا الثقافي الذي يضع المسؤولية على عاتق مقدمي/ات الخدمة الطبية فقط، فمن حق المتلقي أن يساهم في صنع القرار بصفته طرفاً فاعلاً، تحديداً النساء اللاتي يعانين من التهميش والتجاهل، فإذا كنتِ امرأة تود الحفاظ على كرامتها الجسدية وحقها في امتلاك قرارها يمكنك الاهتمام بالخطوات التالية:

1. الاستفسار عن خطوات الفحص السريري (أسبابها وكيف تتم ولماذا تتم بهذه الطريقة)
2. الاستفسار عن الفحوص المعملية المطلوبة والاحتياطات الواجب توفرها عند إجرائها
3. المشاركة في وضع الخطة العلاجية والبحث عن بدائل أكثر ملاءمة
4. اختيار الطريقة المناسبة لمتابعة الحالة
5. وضع آليات تقييم الخطة العلاجية بالاشتراك مع الطبيب/ة

ختاماً، عليك أن تدرك/ي أن المعرفة حقك وأن القرارات المتعلقة بصحتك لا تتحقق إلا عن وعي بجميع الخيارات المتاحة، ووجود مساحة من الحرية لاتخاذ ما يلائمك منها لأن الطبيب/ة لا يعرف أكثر بالضرورة.

هل وجدت هذه المادة مفيدة؟

اترك تعليقاً

آخر التعليقات (2)

  1. شكرا لحضرتك علي الماده المعروضة بما فيها من نقاط تم توضيحها كانت تغيب عنا
    شكرا

الحب ثقافة

مشروع الحب ثقافة يهدف لنقاش مواضيع عن الصحة الجنسية والإنجابية والعلاقات