وحيداً مع أبنائي.. أُسَر ذات أب منفرد

رعاية أسرة مكونة من أب وأبناء، بدون أم، قد تكون ممتلئة بالصعوبات والتحديات، إذ يتولى الأب مهام لم يتعوَّد عليها الرجال في مجتمعاتنا.

اندهشت أثناء مروري بإحدى الحدائق العامة بمنطقة مصر القديمة، بوجود عدد كبير من الأسر جالسين على الكراسي وأمام المناضد بتنظيم معين، وحين استفسرت عن سبب ذلك، اكتشفت أن في يوم الجمعة من كل أسبوع يصطحب العديد من الآباء، الحاصلين على حق الحضانة، أبنائهم في موعد محدد حتى تستطيع الأمهات رؤيتهم.

مسؤولية تربية الأطفال مسؤولية كبيرة تقع على كاهل الأب والأم، وزادت المسؤولية في السنوات الأخيرة، التي تشهد تحديات اقتصادية واجتماعية قد تمثل عقبات أمام النجاح في هذه المهمة. فما بالك بتربية أحد الأبوين للأبناء منفرداً، في ظل عدم وجود شريك/ة يدعمه ويسانده.

وفقاً لتقرير نشرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في مجلة “لانست” العلمية الشهيرة، في مارس 2018، ازدادت أعداد الأسر ذات الوالد/ة الوحيد/ة (سواء كان الأب أو الأم) على مستوى العالم، ويرجع ذلك بالأساس إلى ارتفاع معدلات الطلاق وازدياد عدد الآباء الذين رزقوا بأطفال خارج إطار الزواج، وأفاد التقرير أنه من المتوقع أن تزداد هذه النسب في المستقبل.

وفي تقرير صدر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر، عام 2018، حوالي خمس العدد الإجمالي للزيجات مصيره الطلاق سنوياً، كما تقع 40% من حالات الطلاق في السنوات الخمس الأولى من الزواج. وبالتالي ارتفعت أعداد الأطفال الذين ينشأون في رعاية طرف واحد من الأبوين، إما الأب أو الأم، دون وجود الطرف الثاني بشكل دائم.

من المألوف لدينا في حالات الطلاق مع وجود أطفال أن نسمع عن أمهات يتولين تربية أبنائهن بمفردهن، أو في حالات أخرى غير الطلاق، مثل وفاة الزوج والد الأبناء أو سفره للعمل بالخارج. لكن أن يقوم أب منفرداً بتربية أطفال صغار وتولي جميع أمور حياتهم اليومية يعد أمراً غريباً بعض الشيء على مسامعنا، ولكن كونه غريباً لا ينفي وجود هذه النماذج على نطاق واسع.

وقد يبدو أن حصول الآباء على حق الحضانة أفضل بالنسبة لهم، لأنهم سَيَستَبْقون أبنائهم بجانبهم، ولكن الأبوة المنفردة مهمة تمتلئ بالصعوبات.

شُغْل البيت

يُخبرني خالد (36 عاماً، أب لولدين في عمر السادسة والحادية عشر) أن الطلاق تم حين كان عمر ابنه الصغير سنة واحدة. كانت رغبة خالد أن يحتفظ بالولدين ويتولى رعايتهما، وذلك بالاتفاق مع أمهما.

يقول خالد إن التحدي الأكبر لديه كان في التنسيق بين مهام عمله وتولي شؤون المنزل كاملةً بمفرده، خاصة في وجود طفلين صغيرين يحتاجان إلى رعاية أغلب الوقت.

يمثل تولي الأعمال المنزلية وما شابهها تحدياً للعديد من الرجال حول العالم، وفي مجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص، والتي لا تزال تؤمن في أغلبها بالمفاهيم التقليدية حول تقسيم الأدوار حسب الجنس، أو ما يطلق عليه Gender role، فالمرأة تضطلع بمهام معينة مثل العناية بالمنزل وتربية الأطفال، بينما الرجل يضطلع بمهام أخرى غيرها مثل العمل وتولي أمور الإنفاق.

وإن لم يتربَ الرجل منذ صغره على هذه المفاهيم ولا يتأثر بها، يظل هناك ضغط مجتمعي يتعرض له، خاصةً من قبل أقرانه من الرجال، إن شارك أو تولي مهام “أنثوية” الطابع.

أمور مثل تغيير حفاض الأطفال أو غسل الأطباق أو الملابس، وتجهيز الطفلين للذهاب للحضانة أو المدرسة، كثيراً ما تزعج الرجال، ولكنها لم تضايق خالد لأنه كان بالفعل يشارك في هذه الأنشطة قبل الطلاق.

يستثني خالد طهي الطعام، إذ يخبرني أنه لا يحسن الطهي، وإن أحسنه فلا يجد الوقت، لذا يستعين بأحد المشاريع التي تقدم طعاماً منزلياً ليضمن للأولاد تغذية صحية ومتوازنة.

ولكن الصعوبة تمثلت في التنسيق بين أداء مهام عدة في الوقت نفسه، إذ عليه أن يرعى ولديه ويحافظ على عمله، خاصة أن المديرين وأصحاب الأعمال قد لا يتفهمون أن ينشغل الموظف الرجل بالأعمال المنزلية.

يخبرني خالد أن حظه كان وافراً فيما يتعلق بالعمل، خاصةً في ظل وجود مديرين متفهمين لظروفه الاجتماعية، فكان في أولى سنوات انفصاله يضطر إلى مغادرة عمله في وقت معين كي يلحق بميعاد خروج أبنائه من المدرسة والحضانة، مؤكداً أن الأمر كان سيزداد صعوبة بالطبع في حالة عدم وجود تفهم للوضع من جهة عمله.

فضَّل خالد أن يرعى ابنيه وحده، رغم وجود والدته وشقيقته اللتين كان يمكن أن يستعين بمساعدتهما: “الأمور تصبح أيسر مع الوقت، بحكم التعود من جهة، ومن جهة أخرى لأن الولدين يكبران ويستطيعان الاهتمام بنفسيهما أكثر، إذ يتمكنان الآن من تغيير ملابسهما وإعداد حقيبة المدرسة، وغيرها من الأمور”.

أسرة مختلفة

لا تتوقف التحديات لدى الرجال عند القيام بالأعمال المنزلية، بل تمتد إلى تنمية المهارات العاطفية لدى الآباء، فبعض الآباء يختبرون بعض المشاعر مع أبنائهم بشكل جديد كلياً عما اعتادوه.

لا يميل الرجال عادةً للتعبير عن عواطفهم، حتى أن بعضهم عند سن معينة يتوقف عن معانقة أبنائه أو مشاركتهم أنشطة معينة، وتحضر في هذه الأوقات الأم بشكل أكبر.

كان الحاج أحمد (70 عاماً، أب لفتاتين وشاب، وأرمل منذ عشرين عاماً)، حريصاً على هذه النقطة بعد وفاة زوجته، واهتم بشكل خاص بتوطيد علاقته بابنتيه، خاصة لأنهما كانا في عمر المراهقة.

كان يريد أن يوفر لهما مساحة من الأمان والثقة والحنان، فكانوا يتشاركون الأحاديث وأدق التفاصيل معاً، وعلى الجانب الآخر كانت الأختان تتوليان رعاية أخيهما وإغداقه بمشاعر الحب والحنان تعويضاً عن غياب والدتهم.

وبسؤاله عن رفضه للزواج طوال هذه السنوات رغم تشجيع من حوله على ذلك، قال إن الرفض جاء لسببين الأول هو حبه الشديد لزوجته الراحلة “كانت بنت خالتي، واتجوزنا عن حب، محدش يقدر ولا ينفع يملا مكانها”، أما السبب الآخر فكان من أجل أبنائه خاصةً البنات، فكان الحاج أحمد مقتنعاً أن وجود زوجة أب من شأنه أن يزعزع استقرارهم النفسي ويشعرهم بالحزن، فرفض الفكرة.

يقول: “بعد أسبوع من الوفاة، قعدت مع الأولاد وقلت لهم خالاتكم عاوزينكم تقعدوا معاهم وعماتكم نفس الكلام، بس أنا شايف إننا نقعد مع بعض وأنا مش هدخَّل عليكم حد غريب، كل مهمتكم ومهمتي إننا نحافظ على بعض ونشيل بعض”.

التحدي المتعلق بالمشاعر والصحة النفسية واجه خالد أيضاً، الذي عَبَّر عن شعوره بالارتباك حين وصل ابنه الأكبر إلى عمر ثماني سنوات، ففي هذه المرحلة بدأ ابنه يشعر بالضيق لشعوره باختلافه عن زملائه في المدرسة، الذين تتابع أمهاتهم فيها كل شؤونهم، وكان يشاهد أسر الزملاء عبارة عن أب وأم وليس أب فقط.

يقول خالد إن هذا الارتباك جعله يؤجل مناقشة ابنيه في موضوع الطلاق لفترة طويلة، حتى نصحته أمه بذلك، لأن ابنه صار أكبر وسوف يتمكن من تفهم الأمر، وبالفعل اتبع خالد النصيحة: “الموضوع هِدِي كتير بعد ما اتكلمنا، ولما بدأ يلاحظ إن فيه أطفال تانية أسرهم فيها انفصال عادي، وبعدها اهتمامه بدأ ينصرف عن الموضوع، وينشغل بحياته: المذاكرة واللعب وكده”.

اللجوء إلى المساعدة مفيد

يخبرني سمير (51 عاماً، مطلق منذ خمس سنوات، وأب لثلاثة أولاد، أعمارهم بين العاشرة والواحد والعشرين)، أن أكبر تحدٍ واجهه في بداية توليه شؤون أولاده ورعايتهم كان العمل على استقرار أبنائه النفسي واستيعابهم لحدوث الطلاق بينه وبين والدتهم، خصوصاً أنهم كانوا في عمر مدركين فيه لوجود أمهم ثم غيابها عن المنزل.

قرر سمير التوجه إلى أحد المتخصصين في العلاقات الأسرية، وكان لهذا تأثير إيجابي عليه وعلى أبنائه: “كان له دور وتأثير رائعين، وسهَّل الأمور عليَّ وعلى الأولاد في بداية الأمر، وساعدهم في فهم الموضوع وتقبله بالتدريج”.

كما يضيف أنه يستعين بمدبرة مقيمة في المنزل، وأخرى غير مقيمة تتولى أمور التغذية وما إلى ذلك، بينما يحرص هو على تنظيم وقته بين عمله ومتابعته لأولاده تعليمياً واجتماعياً.

مع ذلك يحرص سمير خلال تربية أبنائه ألا يكونوا معتمدين على أن يخدمهم شخص آخر بشكل كامل، هو فقط يحاول أن يوفر لهم حياة طيبة، فهو في مثل عمرهم توفت أمه وكان أكبر إخوته، ووجد نفسه مسؤولاً عن أمور المنزل ورعاية أخواته:

“الآن أكبر أبنائي يدرس في إحدى الجامعات بالخارج، وبالتالي هو من يطبخ طعامه ويغسل ملابسه وينظف بيته، وإن لم يكن تعود على ذلك منذ صغره كان سيواجه مشكلة كبيرة”.

تربية أب لأطفاله بمفرده تعد تجربة عاطفية مختلفة ذات آثار على الآباء كما الأبناء. يقول سمير إن علاقته بأولاده كانت قوية بالفعل قبل انفصاله عن والدتهم، لكن التغيير الحقيقي كان مع أصغر أبنائه حيث صارت علاقتهم أقرب وأقوى عاطفياً، ويُرجِع ذلك إلى صغر سن طفله وحاجته إلى الشعور بالحنان إلى جانب الأمان.

أخيراً، علينا التأكيد على أن وجود أب يتولى تربية أولاده منفرداً، خاصة في حالات الطلاق، لا يعني بالضرورة وجود أم سيئة على الطرف الآخر، إذ يمكن لأي شريكين منفصلين أن يتفقا على اختيار بعينه يريان أنه من مصلحة الأبناء.


* جميع الأسماء مستعارة بناء على رغبة المصادر

هل وجدت هذه المادة مفيدة؟

اترك تعليقاً

الحب ثقافة

مشروع الحب ثقافة يهدف لنقاش مواضيع عن الصحة الجنسية والإنجابية والعلاقات