هل نورِّث اضطراباتنا النفسية إلى أبنائنا؟
بعد التعافي من الاضطراب النفسي، يسعى المريض/ة السابق/ة إلى ممارسة حياته/ا بشكل طبيعي، ولكن لا يخلو الأمر من المخاوف.
يُفتح باب العيادة وتدخل الفتاة التي تبلغ من العمر 25 عاماً. حسنة الهندام هذه المرة، وعلى وجهها ابتسامة توحي بالرضا، تخبرني أنها تشعر بتحسن كبير في مزاجها، وأصبحت أقدر على التواصل الاجتماعي، بل أنها تلقت عروض عمل تفاضل بينها، بعد أشهر لم تكن تسعى فيها حتى للبحث عن فرصة.
كانت الفتاة قد زارتني لأول مرة قبل عدة أشهر، وجرى تشخيص حالتها بأنها تعاني من نوبات متكررة من الاكتئاب، ووصل الأمر إلى أنها عبَّرت عن رغبتها في إنهاء حياتها.
بعد عدة جلسات توصلت من خلالها إلى تقييم شامل للحالة، قررنا معاً الخطة العلاجية. وبالفعل استجابت المريضة للخطة وانتظمت على الأدوية والجلسات.
بدا في الجلسة الأخيرة أن التدخلات العلاجية نجحت إلى حد كبير، لدرجة أنها بعد أن كانت يائسة من الحياة، صارت تسعى لاستكشاف الجوانب المتنوعة فيها.
ولكن هذا الإقبال على الحياة كان يشوبه بعض القلق، إذ عبَّرت عن رغبتها في الزواج والإنجاب أثناء الجلسة. هنا ظهر على وجهها بعض الخوف، إذ تخشى أن تورِّث الاضطراب إلى أبنائها وبناتها في المستقبل. هي تعرف جيداً صعوبة مرض الاكتئاب، ولا تتمنى أن تتكرر المعاناة مع أبنائها. رأيت هذا القلق مراراً في أعين المتعافين من الأمراض النفسية وعائلاتهم.
أذكر جيداً الأم التي كانت تنهي إجراءات خروج ابنها من المستشفى، حيث عانى الابن، الذي يبلغ من العمر 35 عاماً، من ضلالات الشك والاضطهاد، مما أدى إلى تدهور حالته النفسية وامتناعه عن تناول الطعام بسبب ضلالاته المرضية.
بعد شهر من العلاج تحسنت حالته، ولكن رغم ذلك حرصت الأم على أن تسألني وأنا أعرض عليها الخطة العلاجية قبل الخروج: “هو ينفع يتجوز يا دكتور؟”
سؤال الأم كان نابعاً من معرفتها الحالة جيداً، لأن والده وزوجها كان يعاني من نفس الأعراض، بل هي ما تسببت في انفصالهما.
إذاً، هذا القلق موجود -ومشروع- لدى من يعانون من الاضطرابات النفسية أو حتى من تعافوا منها ويريدون استكمال حياتهم بشكل طبيعي، ويخرج القلق في صورة هذه الأسئلة:
- ما تأثير الأعراض النفسية على العلاقة الزوجية؟
- هل أوافق على زواج ابني/ابنتي من شخص يعاني من اضطراب نفسي؟
- إذا كنت أعاني من اضطراب نفسي، هل يمكن أن يصاب ابني/ابنتي بنفس الاضطراب؟
- هل ما أعاني منه سيؤثر على علاقتي بابني/ابنتي ويجعله/ا مريضاً/ة نفسياً/ة؟
ولكن قبل أن نجيب على هذه الأسئلة علينا أن نفهم أولاً معنى الاضطراب النفسي.
الاضطراب النفسي هو مجموعة من الأعراض المرضية التي تظهر على مستوى الأفكار والمشاعر والسلوك. وهنا علينا أن نؤكد على كونها “مجموعة” من الأعراض، وليست عرضاً واحداً.
ولكي يشخِّص الطبيب/ة الاضطراب النفسي، لا بد أن تكون هذه الأعراض مجتمعة ومستمرة لمدة محددة -حسب كل تشخيص- وأن تسبب للشاكي تدهوراً ملحوظاً في حياته/ا الشخصية، كأن تؤدي إلى عدم اهتمامه/ا بنظافته/ا، أو إلى اضطرابات في النوم، أو تؤثر سلباً على حياته/ا الدراسية أو الوظيفية، في صورة التأخر الدراسي أو فقدان الوظيفة، أو تؤثر سلباً على حياته/ا الاجتماعية، مثل تدهور علاقة المريض/ة بالشريك/ة وبأفراد الأسرة والأصدقاء.
بالتالي، علينا أن نكون حذرين عند التعامل مع الاضطرابات النفسية، إذ قد نظن لأول وهلة أن بعض السلوكيات أو الطباع الشخصية اضطرابات نفسية، ولا تكون في الحقيقة كذلك.
مثلاً، إذا كان الشخص يفضل الترتيب والتنظيم والنظافة بصورة معقولة ولا يؤثر ذلك بالسلب على حياته/ا الاجتماعية والوظيفية، نستطيع أن نقول إن هذه هي طباعه/ا الشخصية، ولا يمكن وصفه بأنه مريض باضطراب مثل الوسواس القهري. أما الشخص الذي يعاني من أفكار وسواسية متعلقة بالترتيب والنظافة، تسبب له قلقاً شديداً وتجعله ينخرط في سلوكيات قهرية متكررة تستهلك وقته وطاقته وتعطله عن أداء عمله، وتزعج من حوله، هذا يمكن أن نعتبره مريضاً.
كذلك، من الطبيعي أن تحزن المرأة أو الرجل بعد مرحلة الانفصال أو الطلاق، ولكن إذا ظلت حياته/ا منتظمة، من حيث العمل والنوم والشهية للطعام، لا يمكن أن نعتبره/ا تعاني من اضطراب نفسي. يختلف هذا عن المريض الذي يدخل في مزاج سوداوي بعد الانفصال، وتراوده الأفكار السلبية عن نفسه وعن الآخرين، ويلجأ إلى العزلة ولا يتوجه إلى عمله، وقد يتمنى الموت.
لذلك لا يمكن أن يشخِّص الإنسان نفسه، إنما عليه اللجوء إلى الطبيب/ة النفسي/ة الذي يأخذ منه تاريخاً مفصّلاً، ويفحص الوظائف العصبية العليا كالتفكير والمزاج والكلام والإدراك والسلوك والحكم على الأمور والاستبصار، حتى يتمكن من معرفة ما إذا كنت تمر/ين باضطراب نفسي محدد، أم لا.
وإذا ثبت وجود الاضطراب، يبحث الطبيب/ة مع المريض/ة أسبابه وطرق علاجه. أما في حالة الأعراض البسيطة، فقد يوجِّه الطبيب/ة صاحب/ة الأعراض لتعلم بعض المهارات التي تمكنه من تجاوزها.
أسباب الاضطرابات النفسية
ما زلنا نريد الإجابة على سؤالنا الرئيسي: هل يمكن أن تنتقل الاضطرابات النفسية وراثياً إلى أبنائنا؟
هنا علينا أن نعرف أسباب هذه الاضطرابات، لأننا إذا توصلنا إلى الأسباب سنتوصل إلى معرفة إمكانية توريثها.
حتى الآن لا نعرف الأسباب المؤكدة لحدوث الاضطرابات النفسية، إلا أن جميع الأبحاث تشير إلى أن هذه الاضطرابات تحدث نتيجة تفاعل أسباب بيولوجية ونفسية وبيئية أو اجتماعية.
لذلك، عند علاج الاضطرابات النفسية، لا بد أن تشمل خطة العلاج تدخل بيولوجي عن طريق الأدوية، وتدخل نفسي عن طريق الجلسات النفسية، وتدخل بيئي أو اجتماعي.
دعونا نلقي نظرة مفصلة على الأسباب الثلاثة:
1. الأسباب البيولوجية
أكدت الدراسات أن بعض الاضطرابات النفسية تحدث نتيجة حدوث خلل وظيفي أو تركيبي في خلايا مناطق محددة في المخ أو في الوصلات بين الخلايا، كما أن التغير في نسب النواقل العصبية الكيميائية كالسيروتونين والدوبامين والجلوتامات والنورإبينفرين في مناطق المخ المختلفة له دور رئيسي في حدوث الاضطرابات النفسية.
وهناك أسباب بيولوجية أخرى مثل:
- الإصابة ببعض العدوات البكتيرية التي قد تتسبب في حدوث ضرر في بعض مناطق المخ.
- حدوث إصابة في بعض مناطق المخ، ومنها الصدمات التي تحدث أثناء الولادة.
- سوء استخدام العقاقير مثل الحشيش والأمفيتامين.
- التغذية غير المناسبة والتعرض لبعض السموم.
2. الأسباب النفسية
هناك نظريات ومدارس مختلفة تفسر ظهور الأعراض النفسية مثل النظرية الديناميكية والمعرفية والسلوكية والوجودية، وغيرها، وقد يطول شرح أسباب الاضطرابات النفسية في كل مدرسة فيها.
ولكن من أمثلة الأسباب النفسية:
- التعرض للصدمات النفسية مثل التعدي الجسدي والاستغلال العاطفي (استغلال المشاعر) والتعدي الجنسي.
- فقد أحد الوالدين في سن مبكرة.
- العلاقة غير المشبعة أو المتحكمة أو مفرطة الحماية مع أحد الوالدين أو كليهما.
3. الأسباب البيئية أو الاجتماعية
التعرض للضغوط الحياتية بإمكانه أن يؤدي إلى ظهور أعراض نفسية عند الشخص المُعرّض للإصابة مثل:
- الانفصال والطلاق
- الإقالة من الوظيفة
- الهجرة
- فقر الدعم الاجتماعي
- الضغوط المادية
- فقد شخص مهم
دور الوراثة
من بين مصادر الاضطرابات النفسية التي ذكرناها، يعتبر عامل الوراثة البيولوجي من عوامل الإصابة بالاضطرابات، هذا يعني أنه إذا كان أحد الوالدين مصاباً باضطراب، ستزيد فرصة أطفاله في التعرض إليه.
ويتضح هذا التأثير الوراثي بشكل أكبر في مرض مثل “الفصام” (شيزوفرينيا)، فإذا كان أحد الوالدين مصاباً بالفصام فنسبة حدوث الفصام للأبناء 10%، وإذا كان الوالدان مصابين تصل النسبة إلى 40%.
يعتقد العلماء أنه يحدث توريث للجين – أو الجينات- الذي يعرِّض الفرد للإصابة، ومع ذلك علينا أن نكون حريصين في التعامل مع هذه المعلومة، فكما ذكرنا قبل قليل، الاضطراب ينتج عن عوامل عديدة، فإذا تشابك العامل البيولوجي مع العوامل النفسية والبيئية أو الاجتماعية الأخرى، قد يظهر المرض. ولكن المرض أيضاً قد لا يظهر، إذا غابت العوامل السلبية الأخرى.
توجد نقطة أخرى مثيرة للاهتمام، إذ ذكرت عدة دراسات أنه يمكن توريث الاستجابة للعلاج من المرض عند الأب أو الأم، بمعنى أنه إذا كان أحد الوالدين مصاباً بالاكتئاب وتعافى منه، قد يشير هذا إلى ارتفاع نسبة الشفاء عند الأبناء إذا أصيبوا.
لنعد الآن إلى إجابتي على الفتاة التي تعافت من الاكتئاب والتي تحدثت عنها في بداية المقال، هل ستورِّث مرضها إلى أبنائها؟
إجابتي كانت: “نعم ولا”، أو”ليس بالضرورة”. بيولوجياً تزيد فرصة ظهور الاضطرابات النفسية عند الطفل/ة ذي الأبوين اللذين يعانيان منها، ولكن في المقابل إذا استمريت في العناية بنفسك، ومن ثم العناية بالطفل/ة وتربيته/ا في بيئة صحيحة وآمنة نفسياً قد تتناقص أو تنعدم هذه الخطورة.
على جانب آخر، إذا لم تكوني تعانين من أي مشكلة نفسية، ولم يتلق الطفل تربية سليمة، سيصاب الطفل بالاضطراب، رغم غياب أي عامل وراثي.
قد لا تكون الإجابة بهذه السهولة في الحالات الحادة والمتقدمة من أي اضطراب نفسي، مثل حالة الفصام الشديد التي كان يعاني منها الشاب الذي سألت أمه عن إمكانية دخوله في علاقة.
هنا، لا يمكن إغفال أن الكثير من المدارس العلاجية تخبرنا أن وجود علاقة آمنة وصحية مع الآخر من أهم أسباب التعافي من المرض النفسي. ولا مانع في كل الأحوال من الدخول في علاقة أو الإقدام على الزواج طالما صارحت الطرف الآخر بحقيقة مرضك، وأشركته/ا في خطة العلاج.
أما من جهة الإنجاب، فعلى المريض استشارة الطبيب/ة ليقدِّم له النصح المناسب لحالته، لأن كل حالة مختلفة عن الأخرى.
أخيراً، إذا كنت تعاني/ن من اضطراب نفسي، وتخشى/ين أن يؤثر على علاقتك مع شريكك/تك، وعلى أبنائك، نقدِّم لك النصائح التالية:
- الذهاب إلى طبيب/ة متخصص/ة في حال وجود أعراض تسبب الضيق والانزعاج.
- معرفة طبيعة المرض وأسبابه وطرق علاجه ومآله من قبل الطبيب/ة.
- مشاركة الطبيب/ة بالمخاوف التي تراودك.
- الالتزام بالخطة العلاجية.
- مشاركة الشريك/ة بطبيعة المرض واحتمالية انتقاله للأبناء.
- إشراك الشريك/ة في الخطة العلاجية.
- تعلم الطرق والأساليب الصحية لتربية الأطفال وتوفير البيئة المناسبة لهم.
- الاستماع إلى الأبناء وتفهم مشاعرهم وإعطائهم المساحة للاستكشاف مع الوقوف بجانبهم ودعمهم.
- الاستماع إلى الابن/ة إذا كان لديه أعراض نفسية وعدم التردد في العرض على الطبيب/ة، لأن العلاج المبكر يساهم في التعافي بشكل أفضل ويمنع حدوث المضاعفات.
تاريخ آخر تحديث: 28 يوليو 2024
موضوع يهم كثير من الناس، والإجابة ليست سهلة لان المرض النفسى لاينطبق عليه نموذج: سبب محدد يؤدى إلى نتيجه محدده، كما هو الحال فى بعض الأمراض العضوية بل هو أكثر تعقيدا وتشابكا. لكن المقال أجاد توصيل المعلومات بشكل مبسط غير مخل وباسلوب سلس وشيق، يجذب القارئ ويزيد الوعى بضرورة الفهم واتخاذ التدابير اللازمة لحياه افضل ورفع الوصمة والمعلومات المغلوطة الشائعة عن المرض النفسى. اعجبتنى طريقة العرض ومحتوى المقال وأسلوب الكتابة السلسة.
شكراُ لك على تعليقك يا مني.
نتمنى لك حياة سعيدة.
فريق التحرير
مقال اكثر من رائع وجدت فيه الاجابات الكافيه على اسألتي … شكرا جدا ايها الكاتب العبقري
مرحباً بك،
شكراً جزيلاً لمشاركتك.