هذا الطفل لن يصاب بفيروس نقص المناعة البشري
ظل فيروس نقص المناعة البشري مخيفاً لفترة طويلة، وظل موصوماً أيضاً، ولكن الأخبار الطيبة أنه بعد التطورات الطبية الأخيرة، صار من الممكن التعايش معه بشكل طبيعي.
في عامه السادس والعشرين، تشكك أحمد في أنه مصاب بفيروس نقص المناعة البشري، وبعد تردد طويل أقنعه صديق له بالتوجه إلى أحد المراكز التي تقدم خدمات المشورة والفحص الطوعي لهذا الفيروس المسبب لمرض الإيدز. وحين توجه إلى المركز لم تعد هناك مساحة للشك، اكتشف أحمد أنه مصاب بالفعل.
ثلاثة أسابيع قضاها أحمد مصدوماً ومنطوياً في غرفته يشعر باقتراب الموت، ولكن لم يجد مفراً من العودة للمركز لاستكمال إجراءات العلاج.
ساعتها قابله أحد ميسرين مجموعات الدعم ونصحه بالانضمام إلى إحداها.
تردد أحمد في البداية خوفاً من أن يتعرف عليه أحدهم، ولكنه استسلم في النهاية للفكرة إنطلاقًا من رغبته في معرفة كيف يقضي من كان يعتقد أنهم قد كُتِب عليهم الموت يومهم، رغم تأكيدات مقدم المشورة بأنه في حالة انتظامه على العلاج سيتعايش بشكل إيجابي مع فيروس نقص المناعة البشري، لدرجة أنه سيستطيع ممارسة حياته بشكل طبيعي.
وقتها أخذ أحمد عهداً على نفسه بألا يفكر في الدخول في أي نوع من أنواع العلاقات أو الارتباط عاطفياً بأي امرأة، حتى لا يجلب إلى العالم المزيد من الأطفال المصابين، أو يكون السبب في إصابة زوجته في المستقبل.
عندما اقترب أحمد من غرفة اجتماع مجموعة الدعم في اليوم الأول سمع أصواتاً عالية مبتهجة والعديد من دعوات المباركة، وعند دخوله الغرفة وبعد انضمامه للمجموعة، اكتشف أن عبارات التهاني كانت موجهة لعضوين في المجموعة قررا أن يتزوجا.
لم يتمالك أحمد نفسه يومها وسألهما: هل ستنجبان أيضاً وتجلبان إلى العالم المزيد من المرضى؟
لم ينزعج أي من الحاضرين من استنكاره، فكل شخص في هذه الغرفة راودته نفس المشاعر يوماً ما.
بدأت المجموعة بتعريف نفسها له فوجد منهم من تزوجت بعد اكتشافها الإصابة ولديها أطفال أصحاء، ومن اكتشف أنه مصاب وما زالت علاقته قوية بزوجته وأنجبا طفلاً آخر بعد الإصابة، ولم يصب الطفل أو زوجته. ومن تعرفا على بعضهما من خلال مجموعات الدعم وقررا أن يتزوجا وينجبا أطفالاً سوياً.
مع مرور الأيام بدأ أحمد يتفهم إمكانية ممارسة العلاقة الجنسية والزواج للمصابين، ولكنه ظل يستبعد هذا الأمر بالنسبة له، حتى تعرف على مريم.
كانت مريم، زميلته الجديدة بالعمل، فتاة متفتحة ومثقفة، أبهرته في البداية بقوة شخصيتها ومرحها الدائم. بعد مرور الأيام، واقترابه منها، اعترفا لبعضهما بمشاعرهما. وصرح أحمد برغبته في الزواج منها، ووافقت في الحال.
في تلك اللحظة تذكر أحمد أنه متعايش مع فيروس نقص المناعة البشري، وتذكر العهد الذي أخذه على نفسه بعدم الارتباط أو التفكير في الزواج، حتى لا يؤذي شريكته. لم يجد أحمد مفراً من أن يعترف لمريم بحالته. صمتت مريم لفترة وجيزة وأخبرته أنها تود أن تذهب معه إلى مركز المشورة.
عند ذهاب مريم إلى المركز كانت هادئة ومنصتة لكلام مقدم المشورة الذي بدأ بالحديث عن كل ما يخص فيروس نقص المناعة البشري (HIV) وكيفية إقامة علاقة جنسية آمنة في حالة إذا كان أحد الشريكين مصاباً بالفيروس، وخيارات الإنجاب المتعددة.
طرحت مريم عدة أسئلة، ورد عليها مقدم المشورة، واقترح أن ينضم إليهم أيضاً أحد الأطباء ليجيب على كافة التساؤلات الطبية.
بعد هذه الزيارة تردد أحمد أن يسأل مريم عن قرارها لثقته برفضها الاستمرار في العلاقة معه، ولكنه اندهش عندما طلبت منه مريم موعداً ليتم التعارف بين العائلتين، ولكنها طلبت أيضاً أن يحتفظا بمسألة إصابته سراً لأن هذا شأن خاص بهما وحدهما.
كانت بداية زواجهما فترة صعبة، إذ كان أحمد دائم القلق من أن ينقل لزوجته الفيروس، ولكن مع التعود على استخدام الواقي الذكري أصبحت العلاقة الجنسية من أسعد اللحظات التي يحظيان بها، وصارت تلك الأوقات هي أفضل الأوقات لأحمد، إذ يشعر فيها بأنه يجد القبول والتفهم من زوجته ويستمتعان سوياً بعلاقتهما الحميمية معاً.
بدأت مخاوف أحمد في التلاشي حين تأكد أن زوجته لم تصب بالفيروس، وتبددت المخاوف تماماً بعد وصول طفلهما الأول بصحة جيدة وخالياً من أي إصابة، وبعد مرور عامين أخريين قررا إنجاب طفل جديد لينعم معهما بتلك الأوقات السعيدة التي يقضيانها جميعاً كأسرة صغيرة.
هذه القصة ليست خاصة فقط بأحمد ومريم ولكنها تخص الآلاف بل الملايين من الأشخاص حول العالم ممن استطاعوا أن يكملوا حياتهم بشكل طبيعي وأن يستمتعوا بعلاقتهم الجنسية وأن يحققوا هدفهم بالإنجاب وتكوين أسرة سوياً.
لم يعد كابوساً
ما زال فيروس نقص المناعة البشري المسبب للإيدز يمثل للكثيرين كابوساً لا يريدون الحديث عنه أو التفكير به. وعلى الرغم من وجود العديد من المصادر العلمية التى تشرح كيفية الإصابة بهذا الفيروس والوقاية منه، إلا أن الغموض والشائعات ما زالت تطارده وحده دون غيره من الفيروسات الأكثر فتكاً والأشد شراسة.
ربما من أهم الأسباب التى أدت إلى نفور الكثيرين عند الحديث عن هذا الفيروس ووصم كل من يصاب به، هو طرق انتقاله، فهو إما ينتقل عن طريق العلاقات الجنسية غير المحمية، أو عن طريق استخدام المخدرات بالحقن، أو من الأم للجنين أثناء الحمل أو الولادة أو الرضاعة.
وبالطبع في السابق كان ينتقل عن طريق نقل الدماء الملوثة من شخص لآخر، ولكن لم يعد هذا الأمر وارداً نتيجة لتطور الفحوص ودقتها وانتشار بنوك الدم التي تتأكد من خلو الدم من أي أمراض.
إذن فهو فيروس يسبب مرضاً ليس له علاج وينتقل عن طريقين، كلاهما مرفوض اجتماعياً في العديد من المجتمعات حول العالم، ويزيد هذه المعضلة صعوبة عدم وجود علاج شاف لهذا الفيروس.
ولكن مع التطور الطبي، تقلصت الكثير من التعقيدات التي تحيط بالفيروس.
ما الفرق بين المتعايش بفيروس نقص المناعة البشري و مريض الإيدز؟
المتعايش مع فيروس نقص المناعة البشري هو من أصيب بالفيروس ولكن الحمل الفيروسي أو عدد الفيروسات غير كاف لإحداث أضرار جسيمة بالجهاز المناعي، في حالات قليلة يكون نتيجة لقوة المناعة الطبيعية للشخص، ولكن في أغلب الحالات يكون نتيجة الالتزام بالعلاج واتخاذ نمط حياة صحي.
أما المريض بالإيدز فهو من عجز جهازه المناعي عن المقاومة وأصبح جسمه أكثر عرضة للأمراض الانتهازية؛ وهي عبارة عن أنواع من العدوى تصيب الأشخاص ذوي الجهاز المناعي الضعيف مثل الالتهاب الرئوي والدرن والكانديدا والسالمونيلا.
يعتقد العديد من الأشخاص أن الإصابة بالفيروس هي نهاية حياتهم وأنهم لن ينعموا بممارسة حقهم في خوض علاقات جنسية وإنجاب أطفال أصحاء. ولكن في الحقيقة صار معظم المصابين بالفيروس يتعايشون بطريقة عادية جداً ويمارسون كل الأنشطة الحياتية والبيولوجية ومن ضمنها الإنجاب.
لا توجد أي مخاوف من ممارسة الشخص المتعايش بفيروس نقص المناعة البشري أي نوع من أنواع الممارسات الجنسية طالما التزم مع الشريك/ة بإجراءات الحماية وأهمها استخدام الواقي الذكري بشكل صحيح سواء كان الشريك/ة متعايشاً مع فيروس نقص المناعة البشري أو غير مصاب.
ومع الالتزام بالعلاج وبنمط الحياة الصحي يقل الحمل الفيروسي في الجسم إلى درجة يصعب معها انتقال الإصابة في حالة عدم استخدام الواقي الذكري في بعض الأوقات، وخاصة عند الرغبة في الإنجاب.
ويأخذنا هذا الأمر للسؤال التالي وهو:
هل يمكن أن ينجب شخص متعايش أو امرأة متعايشة بفيروس نقص المناعة البشري طفلاً سليماً وغير حامل للفيروس وبصحة جيدة؟
الإجابة بالطبع نعم.
يفتقد العديد من الأشخاص المعلومات عن ولادة أطفال أصحاء من والدين أحدهما أو كلاهما متعايش مع الفيروس مما يزيد الوصمة والرهبة الاجتماعية تجاه هذا الفيروس.
ولكن ما لا يعلمه الكثيرين أنه طبقاً لمنظمة الصحة العالمية فإن نسبة الأطفال الأصحاء ممن يولدون من أمهات حاملات للفيروس زادت بين عامي 2009-2014 إلى أكثر من 60%، حتى أن نسبة الأطفال الحاملين للفيروس قلت في بعض الدول عن 2%.
ويعتبر هذا النجاح نتيجة للمجهودات المتعددة في دعم الالتزام بتناول العلاج، واستخدام أساليب حديثة في الولادة ورعاية الأمهات للتقليل من انتقال الفيروس إلى طفلها.
التحضير للإنجاب
تقل نسبة انتقال الفيروس عند التحضير المناسب لعملية الإنجاب والتخطيط لها بدقة والمتابعة مع الطبيب/ة المختص/ة.
هناك طريقتان للإنجاب إذا كان الشريكان كلاهما مصابين بالفيروس أو أحدهما:
- الطريقة الأولى وهي الطريقة التقليدية للإنجاب عن طريق ممارسة العلاقة الجنسية دون استخدام وقاية ولكن مع مراعاة عدة شروط تبعاً لكل حالة.
- والطريقة الثانية هي الطريقة الصناعية والتي يتم فيها استخدام بعض تقنيات التلقيح لضمان عدم انتقال الفيروس خلال الممارسة الجنسية:
الحالة الأولى: إذا كان الشريكان مصابين
إذا كان الشريكان مصابين بالفيروس وملتزمين بتناول العلاج فأنه يتم قياس نسبة الفيروس بالدم أو ما يسمى الحمل الفيروسي (Viral Load)، وعندما تصبح النسبة ضعيفة أو ما تسمى غير مكتشفة (Undetectable) يسمح للشريكين بممارسة العلاقة الجنسية دون استخدام وسائل حماية.
يتابع الطبيب الولادة القيصرية للأم مع منع الرضاعة واعتماد المولود/ة على الغذاء الخارجي، مع إعطاء المولود/ة جرعات من الدواء بعد الولادة لمنع احتمالية حدوث الاصابة، وتكرار التحاليل الطبية حتى التأكد من خلوه من أي عدوى.
اقرأ المزيد: لا يمكن اكتشافه = لا يمكن انتقاله”.. عش آمناً مع فيروس نقص المناعة البشري
وفي بعض الحالات يتم أخذ السائل المنوي وتنظيف الحيوانات المنوية واللجوء إلى التلقيح الصناعي ولكن هذه الطريقة قد تكون مكلفة مادياً للعديد من الأشخاص.
الحالة الثانية: إذا كان الشريك غير مصاب والشريكة مصابة
قد تتبع الطريقة التقليدية للممارسة الجنسية مع إعطاء الشريكة جرعات من الأدوية لمنع انتقال العدوى للشريك، مع التأكد من قلة الحمل الفيروسي للشريكة، أو أن تقوم المرأة بحقن السائل المنوي للرجل داخل المهبل خلال أيام التبويض باستخدام حقنة منزوعة الإبرة.
والمتابعة مع الطبيب/ة لإجراء الولادة القيصرية وعدم الاعتماد على الرضاعة الطبيعية للمولود/ة.
أو استخدام تقنية التلقيح الصناعي، ولكن هذه المرة دون تنظيف للحيوانات المنوية فتكون أقل تكلفة.
الحالة الثالثة: إذا كان الشريك مصاباً والشريكة غير مصابة
إذا كان الشريك مصاباً بالفيروس والشريكة غير مصابة، فتتبع إحدى الطريقتين المماثلتين للطرق السابقة. أما التأكد من أن الحمل الفيروسي للشريك قليل ويسمح لهما بممارسة العلاقة الجنسية دون استخدام الواقي مع تناول الشريكة للأدوية قبل ممارسة العلاقة الجنسية، أو عن طريق غسيل الحيوانات المنوية واللجوء للتلقيح الصناعي.
قد يعتبر البعض أن الأمر مرهقاً على الصعيد النفسي والمادي والجسدي، ولكن بالمقارنة بالسنوات الماضية التى كان فيها التفكير في مثل هذا الأمر درب من دروب المستحيلات، أعطت التكنولوجيا الحديثة والتقدم العلمي الأمل لملايين من الأسر لينعموا بتحقيق رغبتهم في إنجاب أطفال أصحاء، وصار هذا هو الأمر المعتاد، وغير ذلك يعتبر تأخراً من الدولة وتقاعساً من الفرق الطبية العاملة لديها.
ولقد نجحت العديد من الدول في تحويل فيروس نقص المناعة البشري إلى مرض مزمن مثله مثل أمراض الضغط والسكري والتي قد تحتاج لبعض التدابير الخاصة لينعم المصابون بحياة مماثلة لأي شخص غير مصاب، وهذا الأمر أعطى الأمل لملايين من الأشخاص وساعد المجتمع على مواجهة فيروس نقص المناعة البشري وعدم التعامل معه كوباء أو كوصمة عار علي حاملها.
* الأسماء مستعارة حفاظاً على خصوصية المصادر
مقال جميل ?
مقال جميل ?