المجتمع.. صائد الأحلام – قصتان حقيقيتان
إلى أي مدى يمكننا الانصياع لقوانين المجتمع؟ ماذا لو تعارضت أعراف المجتمع السائدة مع أحلامنا، خاصة لو كانت مطالبنا مشروعة؟
لا شك أن للمجتمع الذي نعيش وسطه سلطة علينا؛ الإنسان بطبيعته لا يمكنه أن يعيش وحده، وبالتالي يخضع لقوانين المجتمع ويتأثر بها.
السؤال هو: إلى أي مدى يمكننا الخضوع لهذه القوانين؟ ماذا لو تعارضت أعراف المجتمع السائدة مع أحلامنا، خاصة لو كانت مطالبنا مشروعة؟
“سلوى” في مواجهة الريف
“سلوى” فتاة ريفية تختلف عن باقي الريفيات، فهي لا تحلم بالزواج والإنجاب، ولكن تعشق الخياطة وتصميم الملابس.
التحقت سلوى بالثانوية الفنية، واعتقدت أنها بذلك تبدأ أولى خطوات حلمها حتى يكون لديها مشغل كبير لتفصيل الملابس. لكن الواقع المجتمعي الذي تعيشه كان ضد رغبتها.
تنتمي سلوى لعائلة كبيرة في بلدتها، تؤمن بأن الفتاة تتعلم كل شيء من أجل زوجها وبيتها فقط.
عندما أفصحت لأهلها عن رغبتها تلك، قرر الأهل الريفيون عقد قرانها على ابن عمها – كما هو متبع في مجتمعها.
ضربها والدها، واتهمتها أمها بأنها ستجلب عليهما العار، فماذا سيقول الناس عنهما؟ “بنتهم بتشتغل خياطة؟” هذا بالفعل أمر معيب في قريتهم.
لم تستطع سلوى أن تفعل شيئاً سوى الانصياع لأوامر والديها. بالفعل تزوجت من ابن عمها وهي لا تشعر سوى بالأسى وانتهاء الكون.
ما زاد الطين بلة، أن زوجها رفض أن تعمل حتى كمدرسة بالمدرسة الابتدائية بقريتهما، معللاً ذلك بأنها لا تحتاج لشيء كي تعمل مثل المحتاجين.
مرة أخرى سمعت أسطوانة ماذا سيقول عنا الناس؟ زوجها غير قادر على إعالة أسرته؟
ضاعت كل أحلام سلوى فلم يكن من المسموح لها سوى بالإنجاب وتلبية رغبات زوجها التي تنفذها في أي وقت يطلبه ودون رغبة منها، فكان الإكراه بالضرب والإهانة، وأصبحت العلاقة الجسدية بينها وبين زوجها مصدر رعب كبير لها.
بالطبع أصابها ذلك بالاكتئاب، وفسدت علاقتها بزوجها، وعندما تشتكي لوالديها، يلقيان باللوم عليها ويجبرانها على العودة إلى منزل الزوجية.
استيقظت سلوى في يوم من الأيام وهي ترفض تماماً الحياة التي تعيشها، فجمعت ملابسها ورحلت مع ولديها الصغيرين إلى عاصمة المحافظة التي تتبعها قريتها.
هناك استأجرت شقة صغيرة وساعدتها إحدى صديقاتها على العثور على عمل بواحد من مشاغل الخياطة بالمدينة، ثم رفعت قضية خلع ضد زوجها، وقضية حضانة ونفقة لطفليها.
بالطبع تعرضت لمحاولات عنيفة من أهلها لمحاصرتها وإيذائها، لكنها حررت محضراً ضدهما بعدم التعرض لها في قسم الشرطة، فأعلنا تبرؤهما منها وحذروها من العودة إلى القرية مرة أخرى.
قرر طليقها أنه لن يدفع أي نقود لابنيه وعليها أن تغرق في إجراءات المحاكم وحدها. رغم صعوبة الحياة التي واجهتها بسبب قرارها، ووقوفها وحدها في الحياة دون تعاطف أي من أفراد مجتمعها، كانت تشعر بالسعادة.
عملت “سلوى” في أكثر من مشغل للخياطة، وتقبلت شظف العيش حتى تنفق على ولديها. اقتصدت في مصاريفها لتشتري ماكينة خياطة خاصة بها في المنزل، وبالفعل اشترتها، وشرعت في تصميم أشكال جديدة للجلابيب والعباءات النسائية التي تتناسب وذوق نساء المدينة.
كانت تذهب إلى المنازل لتعرض بضاعتها وتُسَوِّق لنفسها، حتى أصبح لديها زبائن.
تدريجياً زادت الطلبيات، فاشترت ماكينة أخرى وعينت فتاة لتساعدها.
استمر الأمر على هذا الحال، وبالتدريج بدأت تتوسع في عملها حتى حققت حلمها بتأسيس مشغل لتصنيع العباءات، ووقعت عقوداً مع محلات لبيع الملابس في محافظتها.
توسعت في نشاطها مرة أخرى، ووقعت عقوداً مع محلات في القاهرة نفسها، واستطاعت أن تؤسس داراً لتصميم الأزياء للمحجبات وأن تمتلك بيتها وأن تنفق على تعليم ولديها.
للأسف لم تستطع أبداً أن تزيل الخلاف الذي وقع بينها وبين والديها، وما زالا حتى الآن يقاطعانها.
رغم مرارة هذه الأمر إلا أنها تعيش سعيدة داخل المملكة التي أسستها بنفسها، وضمن مجتمعها الجديد الذي يكن لها كل احترام ويراها امرأة حديدية.
“أحمد” الفنان وخمس سنوات ضائعة
عَشِق “أحمد” فن التمثيل منذ طفولته؛ كان يهوى متابعة الأفلام والمسرحيات التي تُعرض في التليفزيون، يحفظ مشاهد كاملةً ويعيد تمثيلها أمام والديه وأقرانه فيصفقون له.
عندما التحق بفريق المسرح بالمدرسة وافق والداه بشرط ألا تشغله هوايته عن الدراسة. لم يكن أحمد بطبيعته مهملاً في دراسته، فلقد كان من الطلاب المتفوقين طوال مراحله التعليمية.
عندما حصل أحمد على مجموع كبير في الثانوية العامة وأخبر والديه عن رغبته في الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية، فوجئ برفض عنيف، وأعلن والده بمنتهى الحزم أنه سيلتحق بكلية الهندسة، وأن التمثيل مجرد هواية لكنها ليست مهنة.
أمره والده بالتوقف عن ممارسة هذه الهواية طالما ستفسده.
وقع أحمد في حزن وحيرة كبيرين، فهو لا يرى نفسه مهندساً أبداً وكل ما يرغب فيه هو أن يمثل، لكنه انصاع لأوامر والده ووالدته – التي أبدت انزعاجاً كبيراً من رغبته – والتحق بالفعل بكلية الهندسة، ونفذ أوامرهما بألا يلتحق بفريق المسرح بالجامعة.
ظل أحمد يتابع نشاط المسرح من بعيد في العامين الأولين من دراسته والحزن يعتصر قلبه، حتى أن ذلك أثر على دراسته ولم يستطع أن يكمل تفوقه المعهود، مما صدم والديه كثيراً وبدأت المشاكل تشتعل بينه وبينهما.
أحمد فقد شهيته لكل شئ وشعر أنه يتغير إلى الأسوأ، فحتى الفتاة التي أًحبها في الكلية، عاملها بقسوة لا تشبهه وتسبب في الكثير من الصدمات لها، حتى تركها بطريقة عنيفة جعلته يعيد تفكيره في نفسه التي فقدها بالفعل، وكأنه لا يمتلك أمر حياته ومستقبله، وإنما هما ملك لوالديه.
قرر داخله أن يمسك العصا من المنتصف، فيلتحق بفريق المسرح دون علم والديه ويكمل دراسته التي يرغبان فيها.
أظهر أحمد موهبة ملحوظة في فريق المسرح، وبدأ يحصل على أدوار كبيرة في المسرحيات التي يقدمونها ضمن النشاط الجامعي.
في نفس الوقت عاد إلى تفوقه الدراسي مرةً أخرى، حتى وصل إلى السنة الأخيرة بكليته، واستطاع فريق المسرح أن يقدم مسرحية متميزة حصلت على الجائزة الأولى في المهرجان الجامعي للمسرح، وحصل هو على جائزة التمثيل الأولى.
كانت سعادته تفوق أي سعادة شعر بها من قبل، وعندما تم ترشيح مسرحيتهم للمشاركة بالمهرجان القومي للمسرح بالدولة دفعه ذلك لأن ينهي سنته الدراسية الأخيرة بتفوق.
بدأ والده في البحث له عن عمل، في الوقت الذي انشغل فيه تماماً ببروفات مسرحيته للمشاركة بالمهرجان، وعندما تم تحديد يوم عرض المسرحية، تمنى أن يحضر والديه العرض، ففاتحهما في الأمر وساعده تفوقه الدراسي على تقبل الأمر على وعد منه بأن ينسى أمر التمثيل مع هذا المهرجان.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يشاهده والده على خشبة المسرح ضمن مهرجان كبير للمحترفين، ففوجئ بموهبة ابنه العظيمة وبكى. اشتعلت الصالة بالتصفيق، وأشاد النقاد الحاضرون بابنه.
لم يقل شيئاً عندما أعلن أحمد بأنه مضطر لأن يخلف وعده، وأن اليوم سيكون آخر علاقته بالهندسة، حيث سيلتحق بمعهد الفنون المسرحية.
كان أحمد يشعر بأنه أضاع خمسة سنوات في كلية الهندسة دون جدوى، لكنه لم يندم. تأكد أحمد أن الانصياع لقوانين المجتمع لا ينبغي أن يدمر حلمه وشغفه الأهم في الحياة.
هناك أخلاقيات وقوانين عامة لمجتمعنا يتوجب علينا الخضوع لها، لكن عندما تقف بعض قوانين هذا المجتمع أمام أحلامنا وطموحاتنا البسيطة، فعلينا التصدي لها والإصرار على أحلامنا مهما كلفنا الأمر.
في النهاية، يجب على المجتمع أن يخفف من إحكام قبضته على رقابنا طالما لا نطالب سوى بما هو مشروع.