“لها ما لها وعليها ما عليها”.. فترة حظر الكورونا وعلاقتنا بأبنائنا
فترة الحظر كانت مفاجئة بالنسبة لنا، صرنا مع أطفالنا معاً طوال الوقت. ثم عادت الحياة إلى طبيعتها، فهل نشتاق إلى الحظر؟
“لما خرجنا من الفترة دي لقيت بنتي اتغيرت، ولما حاولت أفهم ليه مالقتش سبب غير قعدتنا وكلامنا مع بعض”.
تحكي مي عن رحلتها مع فترة الحجر الصحي والإقامة الإجبارية بالبيت خلال عامي الكورونا، وتخبرني بأن هذه الفترة في بدايتها كانت مخيفة ومزعجة وضاغطة “خناقات ليل نهار، كلنا موجودين في نفس الوقت في نفس المساحة، زعيق هنا وهناك، رتب أوضتك.. ظبطي سريرك”. لكن شيئاً فشيئاً، وجد الكلام والتفاهم مساحتهما في بيت مي، بينها وبين ابنيها عاليا (16 عاماً) ويحيى (11 عاماً).
كانت هذه الفترة فارقة في علاقة مي بابنتها، تخبرني أنها تعرفت عليها بشكل أكبر، تحسست مخاوفها، خاصة وهي فتاة في فترة المراهقة، وبدأ حديثهما يأخذ منحنى أعمق وأكثر انفتاحاً وصدقاً.
تقول مي إنها حاولت تشجيع ابنتها على التعبير عن نفسها وتخطي مخاوفها والتصالح مع أخطائها، وبعد مرور هذين العامين اكتشفت أن علاقتها بابنتها وُضِعَ لها أساس جديد قوي جعل ابنتها تتغير للأفضل من وجهة نظرها.
مع بداية عام 2020، أي منذ أكثر من عامين، شهد العالم كله ظهوراً مباغتاً لوباء كورونا، صحبه انتشار سريع للفيروس. عامان قضاهما أغلب سكان العالم في عزلة عن العالم الخارجي فرضها الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي لتضييق الخناق على الوباء الملعون ومتحوراته، في الوقت نفسه الذي شهدت فيه البيوت تقارباً من جديد بين أفرادها.
الآن، وبعد أن عادت الأمور إلى وضعها الطبيعي إلى حد كبير، بالوصول إلى لقاحات وقائية مانعة للعدوى، أصبحت الفرصة متاحة لنا لتأمل هذه الفترة بأكملها وكيف أثرت على علاقتنا ببعضنا، وما الذي تغير بيننا بعدها.
امتنان غير متوقع
رغم أن فترة الوباء أدخلتنا جميعاً في حالة من القلق والاضطراب والخوف -حد الرهاب- من أن تنتقل العدوى إلينا أو إلى أحد أحبائنا، شعر البعض بالامتنان لما صحب هذه الفترة من هدوء وإيقاف جماعي لرتم الحياة السريع، وإتاحة المجال للجلوس مع النفس وقضاء المزيد الوقت مع ذويهم.
ولكن ظلت التأثيرات متفاوتة على العلاقات الأسرية، وخاصة علاقة الأمهات بأولادهن.
تخبرني آية، وهي ربة منزل وأم لفتاة (11 عاماً) وصبي (4 أعوام)، أن فترة الكورونا أثرت بالتأكيد على علاقتها بطفليها وعلى شخصيتها نفسها.
في البداية عانت من القلق الشديد مع انقطاع طفليها عن الذهاب إلى المدرسة والحضانة، خاصةً وأنها كانت المرة الأولى منذ انتظامهما بالدراسة.
لم تعتد آية على الجلبة التي يثيرها الطفلان طوال اليوم، خاصة لأنها شخصية انطوائية وتفضل الهدوء.
لذلك سعت إلى تطوير طريقتها في التواصل معهما، ولجأت إلى الحديث وتقديم الدعم العاطفي بدلاً من الصراخ والعصبية، وعدم التركيز على كل تفصيلة بالمنزل: “حاولت اتصالح مع فكرة إن البيت مش لازم يكون طول الوقت منظم ومثالي، عادي آخر اليوم نروّقه وخلاص”.
كما اكتشفت آية أنه كلما كانت هادئة، كان طفلاها هادئين، وأن الأطفال قادرين على الفهم واستيعاب الأمور ولو بدرجة ما، وذلك ساعد في تقوية علاقتها بطفليها وعلاقتهما بها، وهو أهم ما خرجت به من هذه التجربة، وتحاول الحفاظ عليه بعد العودة إلى الحياة الطبيعية.
إشراك الأبناء
كان للكاتبة والصحفية رانيا هلال، وهي أم لطفلين يبلغان 7 أعوام و11 عاماً، تجربة مختلفة مع فترة الكورونا.
تعتمد رانيا مع طفليها على نظام التعليم بالمنزل بالأساس، لذا لم يكن هناك تغيير على الجانب الدراسي. ولكن تأثرت حياتهما الاجتماعية، إذ كان ابناها يتواصلان مع أصدقائهما عبر الإنترنت في هذه الفترة.
من جانبها، كانت رانيا تشعر بالإحباط الشديد، لأنها لم تعد تذهب إلى العمل وأصبحت تقضي معظم وقتها بالمنزل.
لكنها استغلت حبها للطعام وفن الطهي في ملء وقتها، وهي قارئة نهمة في أنثروبولوجيا الطعام، وأعدت عدة ورش عمل ربطت فيها فعل الكتابة بإعداد الطعام وتناوله، لذا قضت في فترة الحظر الإجباري وقتاً طويلاً في المطبخ لفهم المكونات والتوابل المختلفة، وطرق إعداد الطعام، وكيف تؤثر أكلات معينة دون غيرها على طاقاتنا.
كانت الخطوة المناسبة التالية من وجهة نظرها هي إشراك ابنيها في هذا النشاط المحبب، الذي خلق نوعاً مختلفاً من التواصل بينهم، ما أطلقت عليه “التواصل على مستوى الحواس”، إذ كانوا يتعرفون على ملمس المكونات المختلفة ويشمونها ويتذوقونها معاً.
أثرت هذه التجربة المشتركة تأثيراً إيجابياً كبيراً في علاقة رانيا بابنيها، وعلاقة ابنيها ببعضهما، وعلاقتهم جميعاً بالطعام.
سطوة الشاشات
على العكس من التجربتين السابقتين تركت فترة الكورونا أثراً سلبياً لدى دعاء، وهي أم لثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم ما بين الـ11 والـ 16 عاماً، وتعمل بهيئة تنشيط السياحة.
تشرح لي دعاء كيف أن فترة الكورونا تلك واجتماع أفراد الأسرة في المنزل لوقت طويل تسببا في زيادة المشاجرات بين أبنائها، وبالتالي بينها وبينهم لاعتراضها على بعض التصرفات أو أسلوب التعامل.
تضيف دعاء: “التجمع مع بعض في فترة الكورونا ما خلناش نعمل حاجة غير إننا بقينا نشوف عيوب بعض”. لذلك رأت أن العودة إلى الوضع الطبيعي كان أفضل، لأنه يجعل كل منهم يركز في دراسته وأنشطته.
على جانب آخر، أعربت الكثير من الأمهات عن قلقهن من تعلق أطفالهن بهواتفهم الذكية الذي ازداد بصورة ملحوظة في عامي الإقامة الجبرية بالمنزل، إذ صاروا يقضون ساعات طويلة على منصات السوشيال ميديا أو الألعاب الإلكترونية.
خلال فترة حظر الكورونا، لم يعد هناك إنكار أن الإنترنت صار وسيلة التواصل الوحيدة تقريباً مع العالم الخارجي والعائلة والأصدقاء، وهذا سبَّب شعوراً بالحيرة لدى العديد من الآباء والأمهات، حيرة بين ما يفرضه الظرف العام من جهة، والقلق من آثاره الضارة على أطفالهم.
اجتمعت أكثر من أم تحدثنا معها على أن تعلق الأولاد بهواتفهم الذكية كان أسوأ ما اكتسبه أولادهن من عادات، واستمرت العادة حتى بعد عودة الأمور إلى وضعها الطبيعي.
تصف أسماء، وهي ربة منزل وأم لثلاثة أطفال في مراحل تعليمية مختلفة ما بين الإعدادية والجامعة، فترة الوباء بأسوأ فترة بالنسبة لها، إذ اندمج أبنائها مع هواتفهم الخاصة وقضاء ساعات مع الألعاب الإلكترونية مثل بابجي Pubg. وشعرت بتأثير ذلك السلبي على تواصل أبنائها معها ومع الآخرين.
“مع الأسف لما رجعت الحياة لطبيعتها فضل الموبايل أساسي في حياة الأولاد، الحاجة الوحيدة اللي فضلت محافظة عليها لغاية دلوقتى وجبة الغداء اللي بتجمعنا كلنا، غير كدة مفيش، الكلام قليل والتعامل قليل”.
في الأخير، لا يمكننا الاختلاف على أننا خرجنا جميعاً من عامي الكورونا محملين بتجارب إنسانية ثرية؛ بعضها كان ثقيل الوطأة على نفوسنا، لكن بعضها الآخر ساعدنا في التقرب إلى بعضنا أكثر، واكتشاف أنفسنا وأطفالنا وعلاقتنا بهم في ظرف استثنائي عالمي لا نأمل أن نعود إليه مرة أخرى.