فخ الدايت واضطرابات الأكل: علاقتنا بالطعام وصورة الجسد
على مدار اليوم، تمتلئ حياتنا بالرسائل والمنشورات حول تحقيق الجسم المثالي، وتقييد الطعام من خلال خطط الدايت المختلفة، وترويج لصور أجساد غير واقعية، ومنتجات فقدان الوزن، بالإضافة إلى عمليات جراحية مثل تصغير المعدة وشد البطن والإجراءات التجميلية.
مع مرور الوقت، تضاءلت قدرتنا على التواصل مع أجسادنا، وأصبحنا أكثر اعتمادًا على القواعد الخارجية التي تحدد كيف يجب أن نشعر وما يجب أن نأكل وكيف يجب أن نبدو!
في وسط هذا الزخم من الرسائل المباشرة وغير المباشرة، يعاني الكثيرون/ات سرًا من اضطرابات الأكل مثل اضطراب نهم الطعام Binge Eating Disorder أو البوليميا Bulimia Nervosa أو فقدان الشهية العصبي Anorexia Nervosa.
أو أنماط أكل مضطربة مثل الأكل العاطفي وعدم القدرة على الإحساس بالجوع والشبع والأكل سرًا أو القلق والخوف من الطعام، وعدم القدرة على الاستمتاع والتذوق وغيرها من الأنماط التي أثرت على علاقة الكثيرين بالطعام.
ما هي قواعد الدايت؟ وكيف أثرت على أجسامنا؟
غالبًا ما تأتي الأنظمة الغذائية مصحوبة بقواعد ومبادئ توجيهية صارمة تُملي علينا ما يجب أن نأكله وكمية الطعام التي يجب تناولها. يمكن لهذه القواعد أن تجعلنا نعتمد بشكل كبير على الإشارات الخارجية بدلاً من الاستماع إلى أجسادنا. فعلى سبيل المثال، قد يفرض النظام الغذائي تناول ثلاث وجبات أو وجبتين خفيفتين في اليوم، بغض النظر عما إذا كنا نشعر بالجوع أم لا. وبدلاً من ذلك، قد توصي بعض الأنظمة الغذائية بالصيام لعدة ساعات، أو بالتخلص من مجموعات غذائية معينة أو تقييدها، مما يجعلنا نتجاوز رغباتنا و احتياجاتنا الأساسية في كثير من الأحيان أو نفورنا الطبيعي من بعض الأغذية، مما يؤدي إلى الانفصال عن إشاراتنا الجسدية.
بالإضافة إلى القواعد الصارمة التى تؤثر سلبًا على علاقاتنا بأجسادنا، قد يكون للمصطلحات المستخدمة في ثقافة الدايت آثار نفسية كبيرة على الأفراد، مما يؤدي إلى الشعور بالذنب ويؤثر سلبًا على علاقاتهم بأنفسهم. فيما يلي تفصيل لكيفية مساهمة بعض هذه المصطلحات في مثل هذه التأثيرات:
الأكل النظيف: مفهوم الأكل النظيف يعني أن بعض الأطعمة “نظيفة” أو “نقية”، بينما تُعتَبَر أطعمة أخرى”قذرة” أو “غير صحية”. قد يؤدي هذا التصنيف الثنائي بالأبيض والأسود إلى عقلية صارمة ومقيدة حول الخيارات الغذائية. قد يشعر الناس بالذنب والخجل إذا تناولوا الأطعمة المصنفة على أنها “قذرة”، الأمر الذي يمكن أن يؤثر على احترامهم لذاتهم ويخلق علاقة مضطربة مع الطعام.
يوم الغش/اليوم المفتوح: فكرة يوم الغش تعزز فكرة أن بعض الأطعمة “سيئة” أو محظورة. كما تعزز لفكرة خيانة أو غش الذات وربط تلك الأفكار بالأكل. وغالباً ما يؤدي ذلك إلى الشعور بالذنب والقلق أثناء “الغش” وحتى بعده. حيث قد ينتقد الأفراد أنفسهم لعدم تحليهم بقدرٍ كافٍ من ضبط النفس وقوة الإرادة. فى كثير من الحالات، تتحول الوجبة المفتوحة إلى نوبة نهم مخطط لها يليها شعور دفين بالعار وتأنيب الضمير.
وهم الإرادة والالتزام بنظام غذائي صارم
“معنديش إرادة” هي أول كلمة يتفوه بها أي شخص غير قادر على الالتزام ب”دايت” والاستمرار في فقدان الوزن. على الرغم من أن الإرادة شئ أساسي لعمل أي تغييرات حياتية، فإن فكرة قوة الإرادة وحدها قد تكون مبالغة في التبسيط.
أجسادنا تعكس ما نمر به فى كل فترة من حياتنا: الظروف النفسية، الحالة الصحية والاقتصادية، الروتين اليومي، السعة النفسية للأكل بشكل جيد. ولذلك، ليست الإرادة العامل الوحيد.
المتحكم الأول فى تنظيم وزننا هو عامل بيولوجي حيث يلعب جهازنا العصبي دورًا مهمًا في تنظيم الجوع والشبع والرضا. علاوة على ذلك، عندما نتعرض لنظام غذائي مقيد لسنوات طويلة، يُبَرمَج الجسم على وضع المجاعة والذي يشعر فيه بحالة دائمة من الحرمان الجسدي والذهني حتى فى فترات الأكل الطبيعية. يؤدى ذلك لتعطيل آلية التنظيم الذاتي في الجسم، مما يؤدي إلى تغيرات في التمثيل الغذائي، وزيادة الجوع، وضعف القدرة على الشعور بالشبع حقًا.
لفهم ذلك علينا فهم أجسامنا و آلية التنظيم الذاتي التي أفسدتها سنوات عدة من الدايت.
● الجوع
ينشأ الإحساس بالجوع نتيجة التفاعلات المعقدة بين جهازنا العصبي والهرمونات وإشارات الطاقة. منطقة ما تحت المهاد Hypothalamus، وهي منطقة في الدماغ تعمل كمركز تحكم، تتلقى إشارات من الجسم فيما يتعلق بمستويات الطاقة، والاحتياجات الغذائية، ومخازن الدهون المتاحة. تؤدي هذه الإشارات إلى إطلاق الببتيدات العصبية، مثل الجريلين، الذي يحفز الشهية ويحفز البحث عن الطعام.
● الشبع
ومن ناحية أخرى، فإن الشبع – الذي يشير إلى الشعور بالامتلاء والرضا – يعتمد على مجموعة مختلفة من الإشارات. عندما نستهلك الطعام، يولد الجهاز الهضمي و الخلايا الدهنية إشارات هرمونية مثل اللبتين، والتي تنقل الرسائل إلى الدماغ في المقام الأول، وتساعد هذه الإشارات على تحفيز الشعور بالشبع، مما يجعلنا نتوقف عن الأكل ونشعر بالرضا عند تناول الطعام.
● الاكتفاء والرضا
نحن لا نأكل فقط بهدف الشبع، نأكل أيضًا بهدف المتعة. عندما نأكل قطعة من الشوكولاتة أو الحلويات، يقل تدريجيًا شعورنا باللذة والنشوة مما يجعلنا نتوقف عن الأكل. فقط إذا كنا قادرين على الاستمتاع واستخدام حواسنا وقت الأكل، سنتمكن حينها من التوقف عند الاكتفاء.
تأثير الأنظمة الغذائية المقيدة
عندما يتبنى الأفراد أنظمة غذائية مقيدة للغاية أو يواجهون فترات طويلة من الحرمان من الطعام، قد تدخل حينها آلية التنظيم الذاتي المتوازن بشكل معقد في حالة من الاضطراب. حيثُ يشعر الجسم بنقص في الطاقة المتاحة ويدخل في ما يسمى ب “وضع المجاعة”، وهي استجابة تكيفية للحفاظ على الموارد الثمينة.
● التكيفات فى التمثيل الغذائي:
أثناء وضع المجاعة، يميل الجسم إلى إبطاء عملية التمثيل الغذائي Metabolism و هي بشكل مبسط عملية تكسير وحرق العناصر الغذائية الكبيرة مثل البروتين و النشويات و الدهون لعناصر أصغر و أدق إما لإعادة استخدامها داخل الجسم في عمليات مختلفة أو الحصول على الطاقة أو تخزينها لحين الاحتياج لها، مما يقلل من معدل حرق السعرات الحرارية للحفاظ على الطاقة عن طريق استخدام الدهون المخزنة بشكل أكثر كفاءة. ولسوء الحظ، فإن هذا التباطؤ الأيضي يجعل فقدان الوزن أصعب وأصعب، حيث تُحرَق سعرات حرارية أقل مقارنةً بفترة ما قبل المجاعة.
● زيادة الجوع:
بالإضافة إلى ذلك، يؤدي وضع التجويع إلى زيادة الشهية وإفراز الهرمونات المحفزة للجوع مثل الجريلين. تعمل آلية بقاء الجسم على قيد الحياة على دفع قوي نحو الطعام، مما يزيد من الرغبة الشديدة في تناول الطعام ويجعل الالتزام بنظام غذائي مقيد أكثر صعوبة. لذلك، التغلب على هذه الإشارات الطبيعية التي تهدف لبقائنا أصحاء وعلى قيد الحياة بقوة الإرادة فقط يصبح معركة شاقة.
● ضعف إدراك الشبع:
علاوة على ذلك، فإن الأنظمة الغذائية المقيدة لفترات طويلة قد تزعج إدراك الجسم للشبع. إن الأفراد الذين يتبعون نظامًا غذائيًا مقيدًا قد يعانون من انخفاض في إفراز هرمونات الشبع، مما يقلل من قدرتهم على الشعور بالشبع حقًا حتى بعد تناول كميات كافية من الطعام. يمكن أن يؤدي هذا الاضطراب إلى الشعور بالحرمان وعدم الرضا، مما قد يؤدي بدوره إلى الإفراط في تناول الطعام أو نوبات الشراهة عند تناول الطعام.
صورة الجسد وثقافة الدايت
تعمل الحملات التسويقية المتواصلة على اعتياد مستوى من الجمال بعيد المنال، مما يدفع الكثيرين إلى مقارنة أنفسهم/ن بصور غير واقعية والشعور بعدم الرضا عن مظهرهم/ن.
هذا الضغط المستمر للالتزام بنوع معين من الجسم يزرع مشاعر عدم الكفاءة. فقد يؤدي التركيز على تحقيق الجسم “المثالي” إلى اللجوء لاتباع نظام غذائي صارم وغالبًا ما يكون ذلك على حساب السلامة النفسية والجسدية.
علاوة على ذلك، تربط صناعة التجميل واللياقة البدنية في كثير من الأحيان القيمة الشخصية والنجاح بشكل محدد للجسم، مما يعزز فكرة أن قيمة الفرد تعتمد على المظهر الجسدي.
يمكن أن تؤدي هذه الرسائل الضارة إلى عدد لا يُحصى من العواقب السلبية، بما في ذلك الاكتئاب والقلق وأنماط الأكل المضطربة. مما قد يتطور إلى علاقة غير صحية مع الطعام، حيث تعتبره العدو وليس مصدرًا للتغذية والبقاء على قيد الحياة في المقام الأول أو سببًا للمتعة في المقام الثاني.
التغذية الحدسية والعودة للطبيعة
الأكل الحدسي هو فلسفة ونهج يعمل بالتضاد مع ثقافة الدايت السائدة في مجتمعنا. إنه يدرك أن الأنظمة الغذائية غالبًا ما تكون مقيدة، وتركز فقط على فقدان الوزن، ومنفصلة عن الحكمة الفطرية لجسمنا.
يشجع الأكل الحدسي الأفراد على الاستماع إلى إشارات الجوع والشبع في أجسادهم، واحترام رغباتهم دون الشعور بالذنب أو الحكم، وتطوير علاقة أكثر انسجامًا مع الطعام.
إنه يحتضن فكرة أن أجسادنا هي أفضل سلطة على ما نأكله من حيث النوع والكمية، وأنه من خلال ضبط إشاراتنا الداخلية، يمكننا تطوير طريقة أكثر صحة واستدامة لتغذية أجسادنا. يؤكد هذا النهج على قبول الجسم، والرعاية الذاتية، والاستمتاع بالطعام، مما يؤدي في النهاية إلى علاقة أكثر سلامًا وإشباعًا مع أجسادنا وطعامنا وأنفسنا.