الطفولة والحب: كيف تشكل التجارب المبكرة مستقبلنا؟
ندعي أننا كبرنا ونضجنا، ولكن الطفل الذي بداخلنا ما زالت له متطلباته، ماذا يمكن أن نفعل حتى نتصالح مع هذا الطفل.
ما هي الطفولة؟
ماذا يميزها؟ وماذا يصنعها؟
يميزها أن كل خبرة تَرِد إلينا فيها تكون الأولى، تكون طازجة لم تحدث من قبل. اختبار الحواس والمعلومات والأفكار والمشاعر كله حار، مؤثر، وجديد. لهذا عيوبه أيضاً؛ عيوب السبق.
الأطفال لم يخلقوا بعد مستويات كثيرة من الروابط بين المعلومات التي تصل إليهم. يستقبلونها بحواس بكر، وعقل متعطش. ويعاد تفسيرها وربطها مرات ومرات عبر الزمن. كأنك تدخل لوحة من مركزها، وكلما سرت نحو طرف الدائرة، ترى منها جوانب جديدة.
الأطفال لا زالوا قريبين من المركز، من تفجر أول كل شيء؛ أول حب، أول ألم، أول هجر، أول حنان. ولكنهم لم يروا من اللوحة ما يساعدهم على تقدير أسباب الألم أو تبصر مستويات الحب. فالقسوة قسوة والحب حب، لا أكثر.
لذلك تبقى خبرة الطفولة لوقت طويل، بسبقها، وبرغم نقصانها، أكثر رسوخاً، أو معياراً يقاس عليه ما يأتي بعدها. لو رأيت أمي حنونة، لو اقتنعت بذلك، سأميل للثقة في نساء أقابلهن قبل أن أعرفهن جيداً. ولو رأيت أن أبي لم يحبني جيداً، ستقل ثقتي في جنس الرجالة.
ما المشكلة في ذلك؟
المشكلة أننا نتربى على اعتقاد بأننا نفارق الطفولة. نكبر وننتقل من مرحلة لمرحلة كما نسميها: مرحلة طفولة، مرحلة مراهقة، مرحلة شباب، مرحلة كهولة وهكذا.
هذه تسميات تخدم علماء النفس كعلامات على طريق التطور النفسي، ولكن علم النفس أيضاً عرَّفنا على تركيب أكثر أفقية لكائن الإنسان.
نحن نصطحب ذواتاً متعددة خلال رحلة عمرنا، نحملها معنا ونحن نكبر. في أي “مرحلة” من حياتك توجد المراحل التي سبقتها، توجد بعض خبراتها التي لم ينته دورها بعد، توجد مخاوف من أثر آلامها، وتوجد توقعات وأمانٍ لا زلنا نتشبث بها.
والمشكلة هي في عدم قبول هذه الذوات، بادعاء أننا “كبرنا”، “نضجنا” ولا بد فارقناها. هنا تحديدا تبدأ المشكلة بداخلنا. الذات الناضجة التي نشيدها ويشيدها المجتمع تشن حربها على الذوات المقموعة بمراحلها؛ ذوات الطفولة والمراهقة وخبراتها المفرحة والمؤلمة. والحرب متبادلة. وما أقسى الطفل حين يحارب.
تنشأ أزماتنا النفسية من المسافة التي نصنعها بين ذات “المجتمع” وذواتنا “المتعددة”. كلما تقاربت المسافة بين ما نطلبه لنفسنا وما نحن عليه كان التوتر أقل، وكلما تباعدت كانت الأزمة النفسية أشد جحيمية.
من يعري كل هذا التاريخ النفسي لنا؟
الحب والرغبة في الاقتران بالآخر الجنسي هو أحد أقوى الخبرات الإنسانية كشفاً لهذا الصراع. لأنه حالة تجتمع فيها وتستثار لها وحداتنا البيولوجية والحسية والنفسية والعقلية معاً، بكل تاريخها الذي اختزنته. كلنا في حالة الارتباط نريد أن نحسن الاختيار (جانب عقلي)، نريد أن نستمتع بالحب ونشعر به (جانب نفسي)، نريد أن نمارس جنساً جيداً (جانب بيولوجي)، ونريد أن نرى ونسمع ونشم ونلمس ونتذوق من نحب (جانب حسي).
إنها إذن تجربة تستدعي وحدة طرفي الصراع. تقول لذاتنا الاجتماعية أنها تكتمل بقبول ذواتها الطفلية والمراهقة، وتقول لذواتنا الصغيرة أن الارتباط له مسؤوليات وتبعات نفسية واجتماعية.
الحب متطلب بمعنى أنه فكرة نلونها بأفكار.
إذا سألت “منى” عن معنى الحب ستجيب إجابة مختلفة عن “فرح” أو “هنا”.
بمعنى آخر فكلنا نحب، ولكن نحب على طريقتنا.
هنا يصبح اللقاء بين طرفين متطلباً أن يوفقا بين حبيهما، وبين ألمهما، وهو بالضبط معنى تسوية صراعهما الداخلي بالقبول. قبول كل ذات منهما لنفسها بكل مراحلها، واستيعابها لخبراتها المؤلمة بحيث لا تنعكس كلياً وبشكل لا واعي على العلاقات الجديدة. بحيث لا يملأ التشاؤم فضاء المحاولة، وفضاء النجاة من أسر الخبرات الأولى.
الشراكة الإنسانية مع طرف آخر تضطرنا للـ “تعبير” عن الحب وليس الاكتفاء بالحب فقط. لأننا ببساطة لسنا وحدنا. تعبيرنا عن الحب هو المرآة التي سينعكس عليها كيف استقبلنا الحب من قبل؛ من منظور الأمان أم القلق، السيطرة أم المشاركة، القوة أم الضعف، الوصاية أم الحرية. بين هذه الثنائيات هناك درجات متعددة للتعبير.
ترى من تصف حبيبها بميله لـ “تعذيبها”، وهو يحبها، وهكذا يعبر عن الحب، هكذا اعتاد أن يرى ويشعر بالحب. وترى صديقاً لك يمتدح حبيبته لأنها “حنيِِّنة زي أمه”، هكذا اعتاد أن يعرف الحنان، وأن يستمتع بالحب.
باقي القصة هو طرف الخيط الآخر: هل تستمتع الحبيبة بدورها الأمومي في علاقتهما؟ هل اختبرت هي أيضا الحب على أنه حنان كالأم؟ وهل تستمتع صديقتنا بتعذيب حبيبها؟ هل يوافق هواها وصورتها عن الحب؟
أيا كانت صورة الحب التي نرسلها ونستقبلها، نحتاج فيها للتوافق مع الطرف الآخر. ونحتاج لفهم التاريخ الذي صنعها.
لو استقبلنا كأطفال قسوة أحد الأقارب بوصفها حباً واهتماماً، فستبقى القسوة عنواناً لتعبيرنا عن الحب، واستمتاعنا به أحياناً. ولكن شريكاً لنا لن يتفهم هذه القسوة دوماً بوصفها حباً، لأنه يأتي من تاريخ آخر، ولا يلتذ بنفس الملذات.
هنا يمكن تعديل صورتنا الماضية عن القسوة كحب، بقراءة تاريخنا مع القسوة، وبالإصرار على رفض ما قبلناه في الماضي لأننا كنا- فقط- أطفالاً.
هل لا بد من النسيان والقطع مع ذواتنا الصغيرة وطفولتنا بما تركته من آثار لننجح في علاقاتنا الجديدة؟
لا أعتقد أن هذا ممكن. الممكن هو أن يتفهم ذاك الصغير حكايته في الماضي بعينيه الآن، أن يعيد قراءتها وفق معلوماته الآن، وظروف حياته الآن. ألم الهجر الذي شعرنا به من قبل يبقى ألماً، لكن بعيوننا الآن هو ليس الألم الوحيد، ولن يكون الأخير. بدليل أننا عبرناه، ووقعنا في الحب مرات ومرات، حتى لو لم ننسه.
في علاقاتنا الجديدة لدينا مساحة أكبر للاختيار، تختلف عما أتيح لطفل تحت الرعاية، تصله النتائج دون أن يفهم لماذا اختار الكبار حوله هذه الاختيارات، وتصبح كقدر يسقط من أعلى لا حول له فيه ولا قوة.
كذلك إدراكنا لما يقع خارج يدينا، يختلف عن إدراك طفل لا يفهم كلمة “مستحيل” أو “ليس في الإمكان”، ولكنها في نطاق إدراكنا الكبير.
لا بد أن نعتقد ببصيرة واعية في إمكاناتنا الجديدة؛ الرؤية الجديدة لحكايتنا الماضية، والاختيار الذي منحناه بفضل التحرر من رعاية الأهل، وكذلك قدرتنا على إدراك حدود قدرتنا، ومتى تنتهي.
الطفل والمراهق والشاب داخلنا لا يزال يبحث عن ترضية، عن جبر لجروح الماضي، عن تعويض لحرمان ما.
وهو ما يمنحنا مساحة الرغبة في أي علاقة نخوضها ونحن كبار، أي يشكل جانبها الذي لا نفهمه تماما، لكنه يحركنا نحو من نحب، يحركنا نحو تواصل حسي معه، ومع ذاكرتنا من خلاله، نحو التئام الماضي مع شخصيتنا في الحاضر.
علاقة الحب الممتعة، فيها “من كل ذات شوية”. من طفلنا المتشائم ومراهقنا المتهور وكهلنا الحويط. أما ما يسمى علاقة ناجحة فهو ربما العلاقة التي يستمر فيها هذا “الشغل” على جمع هؤلاء معاً لأطول وقت ممكن.
اقرأ المزيد: أطفالنا وثقافتهم الجنسية.. متى تبدأ؟